رؤية نقدية ـ Once Upon a Time in Hollywood..التجربة الأكثر نضجًا وصعوبة لتارانتينو
"حدث ذات مرة في هوليوود"..هوليوود أرض القصص والمدينة المشمسة التي تدور الأفلام المصنوعة فيها حول العالم، وتعد مصدر لإلهام ومحبة ملايين البشر عبر بقاع العالم، لكن الحكايات عن هوليوود نفسها قليلة على الرغم من ثراء واقعها، اليوم كوينتين تارانتينو يكشف عن تأثير المدينة الشهيرة عليه في قراءة ذاتية ثريه بعيونه تحمل موتيفاته وأسلوبيته، لكنها بالتأكيد اكثر نضجًا من تجاربه السابقة، أحدث أفلامه Once Upon a Time in Hollywood يحمل رؤية للحدث الذى لم يغير من حياة المخرج رومان بولانسكى فقط لكنه أثر فى هوليوود ككل، صيف 1969 بالتأكيد هو اخر مسمار فى نعش عصر هوليوود الذهبي بنظرته الحالمة المغايرة للواقع فى معظم الأعمال الذى ظلت تعرض على مدار 3 عقود تقريبًا وأيضًا نهاية عقد وبداية آخر هو السبعينيات التي اعترفت سينماها بالدم والعنف والانتقام والرعب.
الخمسينيات والستينيات كمرحلة والسبعينيات كمرحلة، هما المكونان الأساسيان لعوالم تارانتينو شديدة التميز شكليًا وبنائيًا، يحرص دائما أن تكون المرحلتين حاضرتين فى أفلامه سواء فى التلوين والمونتاج الأقرب من شكلهما فى السبعينيات وكذلك رسم الشخصيات التي تميل فى عوالمه إلى المبالغة فى إظهارها وأداء ممثليها ليعود بنا إلى هاتين المرحلتين حيث أفلام الكاوبوي ومبارزات المسدسات من الخمسينيات والستينيات وأنهار الدم والانتقام وشكل الجريمة العنيفة الذى تصاعد فى السبعينيات، فبدلًا من كتابة مذكراته، تارانتينو يصنع فيلمه التاسع ليوضح من أين بدأ شغفه بالسينما وكيف تحول المجتمع الأمريكي.
ألفريد هيتشكوك في زمنه سباق فى التنبؤ بالتحولات الجذرية المجتمعية وحجم العنف القادم فى المجتمع الأمريكي بفيلم مثل Psycho، التحولات التي تركزت فى اختلاف شكل الجريمة وتفكك شكل الأسرة الذى كانت تصدره أفلام هوليوود وقتها والذى كان يصور ربة منزل مدبرة وزوج عامل تلتف الأسرة حوله بمجرد عودته على مائدة العشاء، بعد الحرب العالمية الثانية وتأثيراتها على العالم والولايات المتحدة من ضمنها وتضخم آثارها فى الستينيات، وزاد التأثير بحرب فيتنام حتى 9 أغسطس 1969، التاريخ الفاصل فى عمر هوليوود فهو النهاية الحقيقة لعصرها الذهبي يوم أن قام 4 من افراد عائلة مانسون بقتل الممثلة شارون تيت و3 من أصدقائها فى منزلها.
"عائلة مانسون" هي طائفة دينية تتبع تشارلز مانسون المصنف بكونه قاتل متسلسل على الرغم من أنه لم ينفذ الجريمة بيده، التأثير الذي خلفه موت شارون قتل الصورة التقليدية لهوليوود، لكن عند كوينتين فى أحدث أفلامه لم تمت شارون أو أيا من أصدقائها على العكس تلقت "عائلة مانسون" ضربه موجعة، ما يمكن اعتباره أمنية حلم بها المخرج الشهير .
بداية من عنوان الفيلم الذى يسير على غرار اثنين من أهم أفلام هوليوود والعالم وكلاهما بتوقيع أحد ملهمي تارانتينو، المخرج سيرجيو ليوني Once Upon a Time in the West عام 1968، Once Upon a Time in America عام 1984، فيلم كوينتين مثلهما يرسم صورة للمجتمع الأمريكي خاصة الثاني الذى ركز على مرحلة تحولات هامة، كما قدم تارنتينو التحية لعدد كبير من رموز الصناعة فى الحقبتين بالشكل والطريقة التي ظهروا بها، الأسماء أكثر من أن نعددها، حتى نجوم فترة التكوين والتشكيل وأبرزهم شارلي شابلن الذي حظي بتكريمه من خلال جرافيتى ضخم ظهر على حائط إحدي البنايات، ليعبر ويمثل فترة الحرية وسيطرة الفنانين على مجريات الأمور قبل أن يتدخل رجال الأعمال ويؤسس نظام الأستوديو بالشكل المعروف.
نظام الأستوديو مرتبط بعصر هوليوود الذهبي، على الرغم من صرامة هذا النظام وتعامله شبه الديكتاتوري مع الفنانين، الا أن العديد من الأفلام عالقة فى الذاكرة من هذه الفترة، تارانتينو كمخرج تأثر بها وأبرزها فى فيلمه من نقطة نهاية العصر، ليفتح مجال للمقارنة بمشاهد دالة مصممة وموضوعه بعناية فى شريط الفيلم، كإحباط ريك دالتون (ليوناردو دي كابريو) بسبب حديثه مع المنتج مارفن شوارز (آل باتشينو) بعد أن فتح عيونه بشكل واضح لقرب انتهاء نجوميته –رمز لنهاية المرحلة- مع تصعيد جيل جديد شاب بمسلسلات وأفلام مختلفة فى شكلها وموضوعاتها، حتى التركيز على نقطة الانتشار الواسع للتليفزيون وتأثيره المتنامي بداية من استقطاب نجوم السينما القدامى ليمهدوا الطريق لممثلي التليفزيون الصاعدين، أو حتى تتابع المشاهد الذى يمثل رحلة عودة كليف بوث (براد بيت) من منزل صديقه ورئيسه فى العمل ريك، إلى مقطورته فى المنطقة الخالية خلف سينما السيارات والتي يمكن ان يشاهد المعروض فيها بسهوله لكنه يفضل البقاء فى مقطورته ليصنع عشاءه ويستمتع بصحبة كلبه يشاهد التليفزيون.
التأريخ للمرحلة التالية يحمل إشاراته أيضًا فى الفيلم، الحديث الجانبي الذى سبق سهرة العشاء فى المطعم الذى كان أطرافه شارون تيت (مارجو روبي) وصديقها مصفف الشعر جاي سبرينج (إيميل هيرش) والذى أظهرت من خلاله الأولي دهشتها واستنكارها من كون أحد الأفلام "الجريئة" يحظى بعرض خاص بما يلقى ظلالاً على بداية انتشار موجة من تلك الأفلام، وفى الوقت ذاته نهاية العصر الذهبي لهوليوود بظهور تيارات مختلفة حيث شهد منتصف عام 1969 بداية التوزيع التجاري الموسع لفيلم Blue Movie لمخرجه آندي وارهول والذى يعد بداية العصر الذهبي للأفلام الإباحية بكل الاسقاطات الفلسفية والوجودية التي حملتها، كل هذه التفاصيل والمنمنمات الصغيرة رئيسية وهامة لتفكيك الفيلم والتعامل معه إلى جانب كون أفلام تارانتينو صعبه فى التلقي بسبب تفضيله لتغير أحداث التاريخ من جانب أو كم العنف والدماء الذي تتضمنهم أفلامه، كل هذا يجعل من أحدث أفلامه –إلى جانب كونه فيلم ذاتي- مادة صعبة جدًا للتعامل معها وتتطلب مشاهد نوعي لا يكتفي بالمشاهدة قدر ما يبحث فى التفاصيل لآنها تمنح قراءة مختلفة.