"مسيرة غنائية بلا تجاعيد".. سميرة سعيد من الطفلة المعجزة إلى أسطورة الغناء
من يصدق أن الفنانة التي يلازم اسمها صفة التجديد في كل حديث، ومضرب المثل في الطاقة الغنائية الشابة مر على مسيرتها 50 عام؟! سميرة سعيد- المولودة بتاريخ اليوم عام 1958- أسطورة غنائية إستثنائية، أقدم القدماء في جيل الأغنية العصرية وأحدث محدثيها.. مسيرة أسطورية قدمت بها سميرة كل شيء في الأغنية العربية، غنية بتجاربها وبنجاحات استثنائية.. وإعجازية في استمرارها في المقدمة، وتنقلاتها الدائمة والسلسة من مرحلة إلى مرحلة في الغناء..
الأهم من إقبال الفنان على التجديد أن يكون مستوعباً له ومقتنعاً به، وهذا أساس أسلوب سميرة سعيد وفلسفتها الغنائية في مراحلها المختلفة، وهو القالب الوحيد المتوقع منها ولم تتمرد عليه، وأخلصت لشبابها للدرجة التي تجعل أي محاولة للخروج عن المألوف واستعادة الشباب محل اتهام بتقليد سميرة سعيد.. ولكن تقليد أي مرحلة في شباب سميرة سعيد الدائم؟
الطفلة المعجزة سميرة سعيد
شكلت طفولة سميرة سعيد ونشأتها في مدينة الرباط بالمغرب أولى ملامح شخصيتها الغنائية، وتشابهت مع المدينة في استيعابها للأنواع الغنائية المختلفة وانفتاحها، دون سيطرة ثقافة أو إرث موسيقي محدد على المدينة وسميرة سعيد، وكانت في ذلك الوقت سميرة بنسعيد الطفلة المعجزة وأم كلثوم المستقبل والتي تؤهل لكي تكون سيدة للغناء بتلقينها أغاني وأداء الست وعبد الحليم حافظ وتدريبها على الأغاني الفرنسية والموشحات الأندلسية في نفس الوقت، وكان ذلك القالب الأول الذي وضعت به سميرة سعيد وتحررت منه سريعاً.
من يتخيل أن الطفلة التي تغني "قصة الأمس" بجدية تناقض سنها في أول السبعينيات هي الآن من يضرب بها المثل في الخفة والشباب المتجدد؟
ما أنقذ سميرة سعيد سريعاً من قالب الطفلة المعجزة هو اتجاهها المبكر لإصدار أغاني خاصة بها، والتوقف عن تقديم أغاني الآخرين إلى الوقت الحالي، فكانت مرحلتها الأولى في الأغنية المغربية من خلال أغاني "كيفاش تلاقينا" و"يمكن فايت لي شفتك"، وأغنية "وعدي- مغلوبة" والتي تعتبر من الروائع الأولى لسميرة سعيد وأبرز علامات هذه المرحلة قبل الانتقال إلى القاهرة وبدء رحلة غنائية جديدة.
في السبعينيات وصلت سميرة سعيد إلى مصر في مرحلة انتقالية وصعبة للسوق المصري، الذي كان يعيش مرحلة من الفراغ الطربي بعد غياب أم كلثوم وعبد الحليم حافظ مع تخبط وعدم وضوح لاتجاهات الموسيقى العربية وقتها، وكانت المرحلة مليئة بمحاولات استنساخ النماذج المتبقية من العصر المنتهي مثل وردة وفايزة أحمد ونجاة، وزارت سميرة سعيد هذا القالب كطريق إجباري وإجراء روتيني لإثبات الأحقية في التواجد بالسوق المصري، واستسلمت أحياناً لتجارب الموسيقيين الكبار وتخيلاتهم الفنية عنها، فانتجت أنواعاً متباينة ومكثفة بدون بصمة منها أو تميز لأداء عن الآخر، فقدمت الأغنية التقليدية مع محمد سلطان على خطى فايزة أحمد مثل "الحب اللي انا عايشاه"، ونفس الشيء مع محمد الموجي في " يا دمعتي هدي" ومع بليغ حمدي في "علمناه الحب" وابتعدت مع الأخير قليلاً عن مسار الأغنية التقليدية وجرب معها الأغنية القصيرة والمستوحاة من الفلكلور المصري في ألبوم "أحلام الأميرة"، وكانت في مقدمة المتوجهين إلى الأغنية الخليجية أيضاً في تلك الفترة بألبوم "بلا عتاب"، ولكنها ظلت إلى السنوات الأولى من الثمانينات مجرد موهبة ومطربة صاعدة متنقلة بين المدارس الموسيقية المحافظة وباحثة عن نقطة الانطلاق الحقيقة والخاصة بها بعد أن ملت الأغاني التقليدية والتي لم يكن منها هدف في ذلك الوقت سوى إرضاء النقاد والإعلام وإثبات امتلاك القدرات الصوتية أكثر من الرغبة في خلق نجومية جديدة أو شعبية بين الجمهور الشاب.
" لم يعط بليغ حمدي لسميرة سعيد الأغاني الناجحة وجاهزة الشهرة مثل التي قدمها مع وردة مثلا في مرحلتهما الأخيرة.. ولكنه علمها التجديد على طريقته وأعطاها منهجاً جديداً للاختيار والبحث عن الهوية الفنية بعدما وضعها أمام طريق التجديد من آخر نقطة وصلت إليها الأغنية التقليدية وقدمتها سميرة في "علمناه الحب"..".
المطربة الصاعدة سميرة سعيد
وجدت المطربة الصاعدة سميرة سعيد ضالتها في الموسيقار جمال سلامة، والذي وجد أيضاً ضالته الموسيقية في سميرة سعيد، فهو قادم من مجال الموسيقى التصويرية إلى الأغاني ويرغب بنقل الدراما والصورة والقدرات التعبيرية لموسيقاه إلى سوق الكاسيت، وكان من حسن الحظ أن يشكلا ثنائي ناجح في تلك الفترة، وتقود سميرة سعيد في بداية الثمانينات الثورة الأولى لها على الأغنية العربية التقليدية وعلى القالب الثاني الذي وضعت به في رائعتها الخالدة "قال جاني بعد يومين".
قبل ثورة "قال جاني بعد يومين"، كانت فترة الثمانينات مليئة بالضغوط والتقلبات التي كانت كفيلة أن تقضي على معظم مغني المرحلة، وبالفعل انتهى عدد من رموزها سريعاً بسببها مثل عزيزة جلال وميادة الحناوي وغيرهما، وكان من المتوقع ان تستمر سميرة في منافسة زميلاتها في المنطقة الدافئة إلى ان يمل منها الجمهور، ولكنها قفزت سريعاً من مركب الأغنية الكلاسيكية والطويلة، وعادت لتقديم أغاني لا تتجاوز العشر دقائق وأكثر تحرراً في البناء اللحني التقليدي والذي كان غالبيته مكون من مذهب و ثلاث كوبليهات تتكر طوال 15 دقيقة مدة الأغنية.
"قبل قال جاني بعد يومين كنت أعتقد انني لا أجيد الغناء من الطبقات العالية..وجعلتني أصل لطبقات جديدة في صوتي لم أشعر بوجودها من قبل.." سميرة سعيد.
ثورة "قال جاني بعد يومين"
الأغنية التي ستصبح بعد 40 عام تقريباً من تقديمها من كلاسيكيات الأغنية المصرية الجديدة وعلاماتها، ونموذج يتدرب عليه الهواه ومتسابقي برامج المواهب.. كانت في وقتها ثورة وزلزال في سوق الموسيقى على القديم، كما يصفها صاحبها جمال سلامة، وهي النقطة التي بدأت منها سميرة سعيد مسيرتها مع التجديد وكذلك في كسب الثقة باختياراتها وصوتها وجرأته، وقدمت في نفس المرحلة عدة أغاني على نفس النمط مثل "إحكي يا شهرزاد" و"مش هتنازل عنك" و"وحشني بصحيح"، وكانت من أوجه التجديد في الأغاني موضوعها الغنائي الجريء وأداء سميرة سعيد الصوتي الدرامي وزيادة المساحة التعبيرية للتوزيع الموسيقي في دور مواز للكلمات والأداء، بدون استعراض زائد في الكلمات والأوصاف، في شكل أشبه بحكاية بدون مقدمات لموقف عاطفي غير متوقع.
"تتمرد سميرة سعيد على القوالب بسرعة وبسلاسة غير متوقعة لدرجة انه أصبح من المضحك ان نتذكر الآن شهرة سميرة سعيد بالشجن والأغاني الحزينة في الفترة السابقة لمرحلة كادت ان تلتصق بها رغم تقديمها أغاني مبهجة مثل "حلو حبك" التي تهتف بها مباشرة للفرح والحب والتفاؤل..".
قضت سميرة سعيد السنوات الأخيرة من الثمانينات في الأغاني الطربية المتنوعة، ورغم تقديم أعمال بارزة ومتطورة نسبياً مثل "بيقولوا بحبك" و "حلو حبك"، إلا إنها لم تصل إلى ذروة "قال جاني بعد يومين" مرة أخرى، وانتظرت بداية التسعينيات حتى تتخلص تماماً من آثارها، وقدمت شخصيتها الفنية الجديدة بداية من ألبوم "إنساني" 1990، باتجاه إلى استعادة الروح المغاربية في أغانيها المصرية، وبدأته من ليبيا من خلال تعاونها مع الملحن الليبي إبراهيم فهمي والشاعر حسن الصيد كما في أغاني "القلب وما يريد" و"الشوق صحاني" و"منه لله" وغيرها، بجانب بداية تعاونها مع الموزعين محمد ضياء وعماد الشاروني، اللذان استكملا معها هذه المرحلة من بعد الإيقاعات الليبية إلى موسيقى الجاز والبلوز والتوزيعات الحية، وأبرزها أغاني "أنا أحب" و "بشتاقلك ساعات" و"مش عتاب" في ألبومات "خايفة" 1991 و"عاشقة" 1993.
كونت سميرة سعيد آنذاك فريق عمل من الموسيقيين بجانب ضياء والشاروني مثل محمد مصطفى وطارق عاكف وصلاح الشرنوبي، ممن يسيرون على نهج جمال سلامة في التوزيع والتنوع في استخدام الآلات والألوان الموسيقية لبناء أغنية درامية، في مواجهة الموجة الرئيسية وقتها متمثلة في حميد الشاعري وطارق مدكور وغيرهم، وكانت تسير في اتجاه معاكس لاعتمادهم الأساسي على الإيقاعات واختزال التوزيع الموسيقي في أشكال الأورج والتصفيق وأصوات الكورال المميزة لأغاني التسعينيات.
أعطت سميرة سعيد أغانيها على مدار مسيرتها عمراً إضافياً بولائها التام للموسيقى الحية في التوزيع، مما جعلها بعد سنوات طويلة تبدو بعيدة عن تصنيف "أغاني التسعينيات"، واستمر منهجها الجديد إلى منتصف التسعينات في ألبومات "كل دي إشاعات" و"انت حبيبي" و"ألو"، وبرز أسلوبها الخاص في أغاني مثل "والله عيونك قالت" و"نسيني العالم" و"لعلمك انت" و"ارجعلها" غيرها، وأولت سميرة سعيد الأغنية الدرامية والحزينة والمشاعر الجادة اهتمام خاص طوال مسيرتها- على عكس الصورة المكونة حديثاً عنها- خاصة في الفترة ما بين "قال جاني بعد يومين" إلى "كل دي إشاعات"، وتفوقت بها بسبب قدراتها الصوتية واهتمامها بدور الموسيقى في الأغنية، واختيارها الجريء للكلمات والموضوعات على غرار "لازم تنجرح"، "دوري انتهى"، "بعد الرحيل"، "تخلص حكاية"، "غلطة لسان"، "زيك بشر"، "قلبي لازم يموت" وواصلت إلى أحدث أغنياتها في 2015 مثل "أيوة اتغيرت" و"ما أضمنش نفسي"، مع التطور المستمر في نظرتها للأغنية الدرامية.
"عانت سميرة سعيد منذ مجيئها إلى القاهرة من أزمة هوية، كما تصفها ساخرة، يعتبرها المصريون المطربة الوافدة ويعتبرها المغاربة المطربة المهاجرة من البلاد.. ربما أعطت الأزمة سميرة براحاً للتنوع الموسيقي والحياد بين الهويات الموسيقية المختلفة والتحرر من ضغوطها وربما حيرة وتأرجح في بعض الفترات، وتخلصت من العقدة تماماً في نهاية التسعينيات بتصالحها مع جذورها المغربية وروحها المصرية ودمجهما مؤسسة لفترتها الذهبية في مسيرتها الطويلة"
ثورة "عالبال" ووصفة سميرة سعيد السحرية للأغنية المغربية المصرية
بعد فترة استقرار وسكون لسميرة سعيد في منتصف التسعينيات، استعدت بعدها لثورة موسيقية جديدة في حياتها، شكلت الجزء الأبرز في شخصيتها الفنية المعروفة إلى الآن، عرفت سميرة وقتها مميزاتها ونقاط قوتها جيداً وقدمتها بشكل أبرز وأقوى بداية من ألبوم "عالبال" إلى "يوم ورا يوم"، وكانت أبرز أسلحتها الجديدة استلهام الروح المغربية مرة أخرى في الأداء والإيقاعات، بعد المرحلة الليبية القصيرة، بالإضافة إلى وضوح قاموس سميرة سعيد الغنائي المعتمد على الكلمات المباشرة والجمل البسيطة بعيداً عن الأوصاف والتشبيهات الزائدة والمبالغات اللغوية.
التفتت المطربة المغربية المصرية أخيراً إلى ملحوظة محمد عبد الوهاب بتميزها في طريقة غناء بعض الحروف مثل "اللام"، واستخدمته بكثافة ملحوظة في أغلب أعمالها بتنويعات مختلفة، وأعطى لمسة جديدة إلى أسلوبها ووقعاً موسيقياً إضافياً، وأبرزها في عناوين أغاني "عالبال"، "ولا الأيام"، "لا تلوم عليا"، "ميلاله"، "ليلة حبيبي"، "يا ليلي يا ليلة"، "حالة ملل"، "يا ليل"، "صوتك ماله"، "مالي"، "ولا تنساني"، "ميلاله"، "تقدر تقوللي" و "كان مالي" والقائمة تطول، وباستعراض أكبر في تراكيب الجمل الغنائية مثل "لا لا عيني لا لا.. حب تاني لا استحالة"، "سايبني في حال وانا ليلي طال وما عندي احتمال.."، "لو لام عليا قلبك ما يلوم وانا مالي"، وأصبح علامة موسيقية داخل الأغاني أيضاً باستخدامها كزخارف صوتية مثل "يا ويلي ويلي" و "لا لا لا" في عدة أعمال.
شكلت هذه الإضافات الصوتية لسميرة سعيد بصمة مميزة أيضاً في أسلوبها الغنائي، وربما هي أكثر المطربين استخداماً لها داخل الأغاني وتوظيفها في التوزيع الموسيقي، وواجهت سميرة سعيد بذلك اتجاه موسيقى الراي الرائج، وابتعدت كثيراً عن موجة التسعينيات، وقدمت مزيج مغربي- مصري للأغنية، كأنه راي شعبي مصري، بتركيبة بسيطة معتمدة على استخدام طريقة الإلقاء والغناء المغربية- كالتشديد والضغط في مخارج الحروف والمد- بالإضافة إلى اختيار جمل تتماشى مع اللهجة المصرية والمغربية مثل "روحي في محبوبي نار الهوا فيا.. والجرح مكتوبي والفرح مش فيا"، "يا حبيبي حضن تاني يعود.. وينه وينه دلوني دلوني" وغيرها.
لم يمنع ذلك سميرة سعيد من استخدام الإيقاعات المصرية والمقسوم بجانب الإيقاع والأداء المغربي، والتعاون أخيراً مع حميد الشاعري، ولم تغفل الأغاني الشعبية المصرية مثل "عمري ما أسيبك" و"أنا كدة"، ولا الأغاني الطربية مثل "ساعة عصاري" و"حالة ملل"، وكذلك الموسيقى العالمية كالجاز والبلوز والروك والإيقاعات اللاتينية مثل "بتيجي وتمشي"، "اتفقنا"، "بنضيع وقت"، و"مالي"، "ازاي أحب" وأغنية بليغ حمدي "بنلف" التي قدمتها بنفس الطريقة، أنتجت سميرة سعيد 4 ألبومات (عالبال- ليلة حبيبي- روحي- يوم ورا يوم) كنغمة موسيقية واحدة في أكثر مراحلها تألقاً وتحرراً، وكللت فترتها الذهبية بالدويتو الأشهر "يوم ورا يوم" مع الشاب مامي، بنفس الوصفة الخاصة بها التي أنتجت نموذج في كيفية تآلف وانسجام صوتين واتجاهين موسيقيين من المغرب العربي بوسيط مصري.. نجاح "يوم ورا يوم" استثنائي في الأغنية الحديثة وفي مسيرة سميرة سعيد تماماً مثل علامة "قال جاني بعد يومين".
"اتعودت أبقى حرة، محبش أبقى مهزومة وضعيفة ولا مذلولة.. لا أحب الضعف المهين ولا القوة المتسلطة.. وأحب المرأة يبقى ليها صوت وشخصية سواء في حبها أو كرهها وده لازم يترجم في الأغنية.." سميرة سعيد.
السيدة القوية سميرة سعيد
كعادتها، انتقلت سميرة سعيد من القالب الناجح السابق سريعاً بعد 4 ألبومات فقط، رغم احتماله للمزيد، إلى الأغنية العاطفية المصرية بشكلها الحالي في ألبومات "قويني بيك" 2004 و "أيام حياتي" 2008، ورسمت بها الوجه الأبرز من شخصيتها الفنية كسيدة قوية في انفعالاتها وعواطفها، لم ينعكس ذلك على اختيارها للكلمات والموضوعات كأغاني "قد الكلمة"، "هو طيب معاكي"، "لا بينا حلم"، "ضحكتني"، "قال إيه"، "بالسلامة"، "دي تخدك"، "ما خلاص"، "هو انا جيت جنبك"، و"أنا كتير عليك" وغيرها، ولكن امتد إلى لهجة أكثر حدة وقوة في الأداء الغنائي، والاتجاه إلى الموسيقى الإلكترونية والإيقاعية، وابتكرت أسلوباَ في الأداء خاصة في أغاني "الله يسهلك" و"بالسلامة"، "قد الكلمة"، "ازاي أحب" و"في خيالي" وغيرها، وكانت تمهيد لمرحلة انتقال متوقعة لسميرة سعيد إلى الهيب هوب والراب أو تقديم مفهوم خاص بها عنه، ولكن المرحلة لم تكتمل بسبب التغيرات التي طرأت في السوق الغنائي والأحداث السياسية بعد ألبوم "أيام حياتي" وجعلت سميرة سعيد تغيب لفترة وتنتقل إلى تجربة أخرى.
الدليل على تفكير سميرة سعيد في الهيب هوب كمرحلة جديدة بعد "أيام حياتي"، تقديمها أغنية هكذا بالفعل لأول مرة في 2010 مع فرقة "فناير" المغربية "be winner"، نجحت الأغنية وقتها وكانت جرأة كبيرة قبل أن تصبح موجة الراب والهيب هوب الآن قوية ومتواجدة.. تحولت الأغنية لمهرجان شعبي بعدها بسنوات قليلة مع أوكا وأورتيجا "واحدة عملتلي عمل"، كعلامة على اقتراب سميرة بالفعل من الموجة الشعبية الجديدة قبل بدايتها.
خدم التجريب المستمر لسميرة سعيد موقفها من التغير الكبير في الموسيقى العربية بعد 2011، وهي الفترة التي تحول بها أجيال كاملة من المطربين إلى جيل قديم ومنتهي، وظلت سميرة مطربة شابة يتناسب معها أي تغيير بدون تنازل أو شعور بالاضطرار لذلك لأنها تجيده من البدايات، فجاء غيابها الطويل في تلك الفترة غير مؤثر على بريقها بل ازداد مع عودتها بسبب انفتاح الجمهور والساحة الغنائية أكثر من فترة التسعينيات وبداية الألفية، فكتب النجاح الكبير لألبومها الأخير "عايزة أعيش" 2015، بتماشيه مع موجة الأندرجراوند والروح الشبابية من نفس أسلوبها الأساسي، خاصة في العملين الأشهر "محصلش حاجة" و"هوا هوا"، وبنفس عامل النجاح المفاجئ لأغنيتها المغربية "ما زال" في 2013، التي مارست بها هوايتها في تقديم أعمال خارج زمنها، واعتمدت مفاجأتها على صوت موسيقي وغنائي مختلف كلياً لأول مرة في مسيرتها، ولأول مرة في الأغنية العربية والمغربية.
لدى سميرة سعيد قدرة على المرونة مع التغيرات الطارئة في الأغنية العربية، إضافة لقدراتها على استباق هذه التقلبات، دون التخلي عن إطارها الفني المستمر، أثبتتها في بداية الثمانينات وفي نهاية التسعينيات، وأخيراً بعد 2011 بعودتها في ألبوم "عايزة أعيش"، وكونت في الألبوم فريق عمل من الموسيقيين الجدد مثل بلال سرور وشادي نور وهاني ربيع وغيرهم، ظهرت المرونة في تغير قاموسها الغنائي بتكثيف الأجواء الاحتفالية في الأغاني وزيادة حدة المباشرة وقوة الشخصية ولكن بتخفيفها بلمسة هزل ومرح للتوازن مع المحتوى الجدلي لموضوعاتها، مثل أغنية "إنسانة مسئولة"، "محصلش حاجة"، "هوا هوا" و "يا لطيف"، وكذلك في أغانيها المنفردة بعد الألبوم مثل "سوبر مان" و"هوليلة" و"قط وفار"، ونفس التوازن حققته في الموسيقى بتقديم أغاني درامية ورومانسية على النسق المعروف مثل "احتمال وراد" و"معنديش وقت" و"أوقات كتير"، وبالتنوع في الموسيقى من خلال التوسع في الموسيقى الإلكترونية يقابله محافظة على التوزيع الحي والجاز، أو الدمج بينهما.
خدمة سميرة سعيد الكبيرة للموسيقى المغربية
من المعتقدات غير الدقيقة عن سميرة سعيد إنها لم تعط الأغنية المغربية القدر الكاف من الاهتمام، والأدق إنها قدمت للأغنية المغربية خدمات كبيرة، بداية من تجاربها الأولى بتقديم شكل رومانسي وطربي للأغنية المغربية مثل "يمكن فايت لي شفتك" و"سؤال الليل" وغيرها، بجانب تجاربها في الموشحات والقصائد وغيرها، قبل الخدمة الأكبر في مرحلة "عالبال" و"يوم ورا يوم"، باستيعاب مفهوم أوسع للثقافة الموسيقية المغربية وروحها، مهدت بسببها الطريق لتجارب غنائية أخرى من نفس الأسلوب ومنها أغنية "مازال" بدمج الأصوات المغربية المعروفة كالكناوة بالموسيقى الإلكترونية، وساعد ذلك عدد من المطربين الشباب في المغرب في استخدام هذه المعادلة للانتشار عربياً وأبرزهم بالطبع سعد لمجرد.
"لا يوجد إطار صحيح للحفلات في مصر.. عندي طموح عالي جداً في الحفلات وبغير جداً من الحفلات برة واننا نقدر نعمل استمتاع سمعي وبصري.. في الألبوم ببقى مسيطرة على كل أدوات الشغل وأطلعه في أحسن حالاته انما الحفلات مببقاش مسيطرة على حاجة.." سميرة سعيد.
الممثلة سميرة سعيد
نفس الأمر بالنسبة للتصور السائد إن سميرة سعيد عدوة الرجل في أغانيها، والنابع من قوة شخصيتها الغنائية، والأدق إنها فقط حافظت على شخصية غنائية واضحة لها صوت وفلسفة في مفهوم العلاقات الإنسانية والعاطفية لا تتنازل عنها، ظلت مخلصة للأغنية العاطفية منذ أول أعمالها في طفولتها إلى الآن، ولم يعتد الجمهور ربما على اللهجة القوية في التعبير عن المشاعر وقوة المواقف سواء في الرقة والشجن أو الجفاء والتحدي مثل طريقتها، وساهم في تعزيز هذا التصور القدرات التمثيلية والتعبيرية الكبيرة التي تمتلكها سميرة سعيد في صوتها الذكي والمتقمص لإحساس الكلمة، يجعلها مقنعة في كل الأدوار والشخصيات داخل الأغنية، وليس في كل الألوان الغنائية فقط، فهي متجددة في الأداء الصوتي مثل العناصر الأخرى تماماً.
سميرة سعيد ساعدتها بعض سماتها الشخصية في مسيرتها وتكوين إطارها الفني، كغريزتها الفنية وشخصيتها القوية والبعيدة عن الأضواء وشعورها بالسأم السريع في تذوقها للفن وانفتاحها على الموسيقى الغربية وغيرها، انعكس ذلك على الإطار العام لأغانيها، كضرورة خلق شخصية أو أكثر في الأغنية، والجانب الاستعراضي والتصاعد الدرامي والحواري في الموقف العاطفي، يليق بها تقديم مسرح غنائي وحفلات غنائية استعراضية، وهو الجزء المفتقد في مسيرة سميرة سعيد، حاولت تنفيذه في مرات قليلة مثل كليب أغنية "محصلش حاجة" وحفل ألبوم "قويني بيك"، وكان السبب في عزوف سميرة سعيد عن الحفلات لقلة الإمكانيات التقنية وعدم وجود قوة إنتاجية ورائها التي تمكنها من نقل هذه الحالات والصور من الأغاني إلى المسرح.
"ناس كتير بتقولي إن شغلك ما بيعجزش ودي أحلى حاجة بتتقالي إن الشغل مفيهوش تجاعيد وتحس إنه اتولد النهاردة.. والفن ضد الرتابة وضد الملل وانا ماحبش أبقى شبهي أو شغلي يبقى شبه بعضه.. والزمن عدى بيا معرفش ازاي عدى، تقول 30 سنة بغني انا بستغرب.. جوايا طفلة طول الوقت ويمكن أنا طموحي زيادة شوية وحاسة إن إمكانياتي ممكن تتفجر في أشياء أكتر من كده، عشان كده حاسة إن فيه حاجات كتير لسة محققتاش ونفسي أحققها.." سميرة سعيد.