الشيخة بدور القاسمي لـ "هي": اللغة العربية تزخر بالقصص والحكايات العظيمة والحفاظ عليها يحفظ ثقافتنا وهويتنا
اللغة العربية أو لغة الضاد هي أكثر اللغات السامية تحدثا، وإحدى أكثر اللغات انتشارا في العالم، تتميز بتنوعها وجماليتها الفريدة، سواء من جهة الفصاحة والكم الواسع من المفردات فيها، أو من جهة الترادف ودلالة الأصوات على معانيها. وقد سعى ويسعى كثيرون للحفاظ على اللغة العربية وإرثها القيّم من الاندثار في ظل العولمة الحديثة، وانجذاب جيل الشباب نحو اللغات الأجنبية أكثر منها، بدعوى أنها مُملّة وثقيلة، ومنهم الشيخة بدور القاسمي، رئيسة الاتحاد الدولي للناشرين، من خلال إطلاقها مشروع "مجموعة كلمات" الهادف إلى تقديم محتوى مميز لكتب الأطفال. وتطلعنا الشيخة بدور على مزايا هذه المجموعة، ودورها في رئاسة الاتحاد الدولي للناشرين في هذه المقابلة الحصرية مع "هي".
ماذا أضاف العمل إلى شخصية الشيخة بدور القاسمي وثقافتها؟
لم أكن يوما بعيدة عن العمل، سواء بشكل مباشر، أي العمل الذي أضطلع به بنفسي، أو بشكل غير مباشر من خلال متابعة من يعملون حولي، لذا أستطيع القول إن العمل والشغف بالإنجاز الذي يترك أثره العميق في الواقع الاجتماعي، رافقا مسيرتي ونشأتي منذ البداية.
نشأت في كنف أسرة يشكل العمل التنموي العام جوهر حياتها اليومية، وأحببت هذا النوع من العمل منذ صغري، وبسبب قربي من مركز صناعة القرار التنموي، كنت أرى انعكاسات هذا القرار على المجتمع، فبدأت منذ الطفولة أدرك أهمية القرارات التي تضع المصالح العامة لجميع الأفراد والفئات هدفا لها، وبشكل خاص عندما كنت أرى ما يقال حولي مجسدا على شكل مؤسسات وهيئات وبرامج ومبادرات تنموية. ومن وجهة نظري، العمل التنموي، الذي يهدف إلى تنمية الفرد والمجتمع والارتقاء بشكل الحياة وجودتها بكل جوانبها، هو التجسيد الأسمى للوجود الإنساني.
لهذه الأسباب، بدأت مشاركاتي في العمل العام مبكرا، وأسهمت في الكثير من المبادرات والفعاليات الثقافية. وكانت الانطلاقة الأهم بالنسبة لي هي تأسيس "مجموعة كلمات"، لتوفير مصادر المعرفة للأطفال واليافعين، وحتى البالغين، باللغة العربية وبجودة عالية. ومن ثم بدأت أنا وزملائي الناشرين في دولة الإمارات العربية المتحدة بتأسيس "جمعية الناشرين الإماراتيين". ومن خلال رئاستي للجمعية تعرفت إلى مجتمع النشر العالمي، وهو ما قادني إلى تولي منصب رئيسة الاتحاد الدولي للناشرين. العمل هو بناء للشخصية، في كل خطوة عملية نضيف لبِنة إلى فكرنا ومعتقداتنا وطريقة حياتنا، وهذا يعني أننا وفي سياق سعينا نحو بناء الحياة إنما نبني أنفسنا قبل كل شيء.
ما الذي أضافه تكليفك برئاسة اللجنة المنظمة لملف "الشارقة العاصمة العالمية للكتاب" لعام 2019؟ وكيف تصفين هذه التجربة المميزة؟
اختيار الشارقة العاصمة العالمية للكتاب لعام 2019 كان حدثا تاريخيا بامتياز، لأنه شكّل تتويجا لمساعي الإمارة نحو ترسيخ مكانة الكتاب والقراءة والمعرفة في مسيرة التنمية، واستحقاقا لما راكمه المجتمع، وراكمته المؤسسات الرسمية والخاصة. لذا كان تكليفي برئاسة اللجنة المنظمة لملف “الشارقة العاصمة العالمية للكتاب” لعام 2019 مسؤولية كبيرة، لأن كل خطوة تلي نيل الشارقة للقب، ستصبح جزءا من التراث المصاحب لهذه المناسبة، وجزءا من ثقافة المجتمع الإماراتي بشكل عام.
تجربتي في رئاسة هذه اللجنة كانت مختلفة، لأننا واجهنا أزمة جائحة كورونا، ونحن نستعد لتنظيم احتفال كبير للإعلان عن نهاية برنامج “الشارقة العاصمة العالمية للكتاب” في أبريل 2020. ربما تتخيّلون حجم الارتباك الذي حصل لفريق العمل، وخاصة أنه كانت لدينا خطط مختلفة لمواجهة بعض الأزمات، ولكن في الحقيقة لم نكن نتخيّل أننا سنواجه وباء عالميا.
لقد كانت أياما صعبة وشاقة، ولكننا نجحنا في التعامل معها باحترافية، وتعلّمنا منها الكثير كأفراد وكفريق عمل في إمارة الشارقة، وقد استفدت من هذه التجربة الفريدة على المستوى الشخصي والمهني، وتعلمت دروسا مهمة في القيادة خلال الأزمات.
كيف تسهم مشاريع ثقافية مثل "مجموعة كلمات" في الحفاظ على لغتنا العربية وإيصالها للأجيال القادمة؟
أحد الأسباب الرئيسة التي دفعتني إلى تأسيس "مجموعة كلمات" هو نوعية المحتوى العربي المقدم للأطفال، إذ لاحظت أن اللغة في كتب الأطفال إما تقليدية جامدة، أو أنها مبسطة لدرجة مبالغ فيها.
وفي أحد الحوارات بيني وبين ابنتي، التي كانت في الرابعة من عمرها حينذاك، عبّرت أمامي عن تفضيلها للكتب باللغة الإنجليزية، وعندما سألتها: لماذا؟ قالت: “إنها ممتعة ومسلية أكثر من العربية”. وقتها تساءلت: لماذا لا تبدو كتب الأطفال العربية مسلية مع أنها زاخرة بالقصص والحكايات العظيمة، ومليئة بالحكمة والقيم اللازمة لتنشئة جيل مبدع وملتزم بمجتمعه ووطنه؟ ووجدت أن السبب في ذلك هو اللغة وتصميم الكتب، ولا أقصد هنا أن لغتنا العربية غير مناسبة للأطفال، بل أقصد أنها قابلة من حيث الصياغة واللهجة واستخدام المفردات لتكون مناسبة تماما لكل جيل، أما تصميم الكتاب من حيث الغلاف والألوان والرسوم، فهو عامل جذب مهم جدا بالنسبة للأطفال.
يتأثر الطفل بطبيعة الحال بالعامل البصري بشكل كبير، وهذا يقوده للاهتمام بالكتاب ومحتواه. لهذا جمعنا في "كلمات" بين التصميم المبدع واللغة المناسبة للطفل والمحتوى والرسالة ذات القيمة العالية، ولمسنا تغييرا إيجابيا كبيرا في علاقة الطفل مع الكتاب، وفي نسبة إقباله عليه وتفاعله معه. إن الجمع بين هذه العناصر الثلاثة ضروري، لذا جاءت “مجموعة كلمات” لتسهم في إرساء هذا النهج، وتعيد تعزيز العلاقة بين الطفل العربي ولغته الأصلية.
في ما يتعلّق باللغة العربية، يجب أن يتحول تعليمها إلى منهج تطوري، يراعي الجاذبية والملائمة للأجيال الجديدة، فالعربية تشهد تراجعا باعتبارها لغة تعلّم عند أبنائها، وهذا ما أكده تقرير حول اللغة العربية أصدره البنك الدولي، وأشار إلى أن نحو 60 في المئة من الأطفال العرب لا يجيدون قراءة أو فهم النصوص باللغة العربية. بالمقابل، هناك إمكانية كبيرة لمواجهة هذا التحدي والتغلّب عليه، لكننا نحتاج إلى تضافر جميع الجهود في سبيل تحقيق ذلك، وللناشرين والكتّاب دور كبير في هذه المهمة.
تحملين عبء الأدب العربي واللغة العربية في الكثير من المواقع، هل تجدين متعة في هذه المهام؟ وما أهمية اللغة العربية بالنسبة لك؟
الاهتمام بالأدب العربي والعمل على تطوير مخرجاته من خلال دعم حركة النشر والكتّاب، وبشكل خاص الجيل الجديد من الأدباء، ليس عبئا، بل هو مهمة وواجب على كل فرد، لما للأدب من دور كبير في نهضة الشعوب والأمم، ومن يعمل في مجال الأعمال التنموية والثقافية ذات الأهداف طويلة الأمد، ومستدامة الأثر، لا بد أن يشعر بالسعادة النابعة من الرضى عن الذات، لكن بشرط ألا يتحول هذا الرضى إلى شعور بالاكتفاء من العمل.
الأدب العربي، كما هو حال الأدب بشكل عام، حالة وجدانية وثقافية وفكرية لا يمكن العيش من دونها، فهي من ناحية ترتقي بالوجدان وتُثري التجربة وتغني الحياة، ومن ناحية ثانية تقدم الثقافة بعمقها وتفاصيلها للآخرين، وتؤسس روابط متينة بين الشعوب.
والأدب ليس مجرد وسيلة ترفيه، بل هو وسيلة للتعلّم، فعندما نقرأ تجارب الآخرين محليا وعالميا، نتعلّم ونراجع مسارنا ونصوّبه، وهو كذلك أحد أشكال التعبير الإنساني عن الطموح والأحلام في خصوصيتها وعموميتها ومشاركتها على الملأ.
أما اللغة، فهي حاملة كل ذلك، حاملة الثقافة والهوية وناقلة التاريخ للحاضر والمستقبل، ولا يمكن تذوق ثقافتنا الخاصة إلا من خلال لغتنا، ولا يمكن التعبير عن فكرنا إلا بلغتنا أولا، فإذا كنا بحاجة إلى فهم وتعلم اللغات الأجنبية لفتح حوار مثمر مع الآخر، فنحن بأمس الحاجة للغتنا من أجل الحوار المحلي والحوار الذاتي.
كيف توازنين بين الحياة الشخصية والعملية؟
أعتقد أن التوازن يكون مطلوبا بين شيئين متناقضين، أو على الأقل مختلفين عن بعضهما البعض. أنا لا أميل للحديث عن التوازن بقدر الحديث عن أهمية أن نحب عملنا، وأن نمارسه بمسؤولية ورؤية، ونجعله يضفي قيمة حقيقية على شكل ومستوى حياتنا، وهذا يمكن تحقيقه مع أي نشاط، فقط نحتاج إلى إدراك الأثر الإيجابي العام للأعمال في المجتمعات وجودة حياة الناس. وإن الانفصال عن حياتنا العملية، التي تأخذ من جهدنا ووجداننا حيّزا كبيرا، هو بمنزلة انفصال عن الدروس والعبر التي نستلهمها منها، والعمل بشغف هو عنصر مهم للنجاح على المستويين الشخصي والمهني، أما العمل التنموي العام، سواء أكان ثقافيا أو علميا أو اجتماعيا، فهو الحياة الشخصية والعامة في الوقت ذاته، لا يمكن التعامل مع العمل السامي بوصفه وظيفة مؤقتة نغادرها بمجرد انتهاء وقت الدوام، بل هو منهج وأسلوب حياة كاملة ومتصلة.
كيف تنظرين إلى دور المرأة في مجتمعاتنا العربية حاليا؟ وهل ستحقق المزيد من النجاحات مستقبلا؟
المرأة العربية كانت تاريخيا، ولا تزال، حارسة الحياة، والأمينة على مستقبل أفراد الأسرة، وظلت رائدة في العمل التنموي مذ كانت تدبر شؤون البيت، خصوصا في الحالات التي كان يضطر فيها الرجل إلى مغادرة البيت من أجل العمل الذي كان يتطلب الكثير من السفر والغياب في بعض الأحيان، وهذا وضعها في مكانة الشراكة الكاملة في حماية المجتمع من التفكك خلال مرحلة التحولات الاقتصادية التي مرت بها البلدان العربية.
وعندما نتحدث عن دور المرأة العربية في عالم الأدب والثقافة، يمكننا القول إن المرأة والأدب توأمان لا ينفصلان، وأغلبية الحكايات والروايات الشعبية نُقلت إلينا عن طريق الأمهات والجدات، فالمرأة في هذه الحالة هي حارسة الذاكرة الشعبية، والتي وفرت لها أسباب الحماية من الضياع، ومنحتها حيوات أخرى لتستمر مع كل جيل، إلى جانب حقيقة مهمة، وهي أن للمرأة العربية تاريخا عريقا في صناعة المعرفة وتطوير الثقافة، والذاكرة تحفظ الكثير من أسماء الروائيات والشاعرات والمفكرات اللواتي تركن بصماتهن الواضحة على المشروع الثقافي العربي.
وفي هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ المنطقة العربية، أود أن أقول لكل امرأة: يحق لك أن تفخري بذاتك ودورك وإبداعك في مواجهة التحديات الراهنة، ويحق لك أن تفخري بأنك حافظت على منجزاتك ومنجزات مجتمعك، وبنيت عليها الكثير من النجاحات على الصعد كافة.
هذا التميّز الذي أظهرته المرأة العربية في مرحلة غير استثنائية، يفرض علينا جميعا، أفرادا ومؤسسات، أن نوفر لها عوامل التمكين في القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والمعرفية، وبشكل خاص في قطاع النشر والمعرفة، ليس لأنها امرأة فقط، بل لأنها تمتلك مخزون ذاكرة راكمتها بتجربتها وتفاعلها مع الأحداث، ويجب أن تتاح لها الفرصة للتعبير عنها ومشاركتها مع العالم.
ما أهم نصائحك لقارئات مجلة "هي" في مجالات الدراسة والعمل والعائلة؟
القراءة المتأملة والقراءة النقدية هما نصيحتي لكل من يمسك كتابا أو يهم بقراءة نص، القراءة النقدية هي قراءة تتجاوز في نتيجتها الترفيه أو التسلية وقضاء الوقت، إنها قراءة تعلّم متواصل ومستدام، وتنمية للمواهب والقدرات، وتطوير للأفكار. والقراءة بتمعن مفتاح النجاح في كل المجالات، لأنها تحوِّل الإصرار من حالة قد تكون عابرة ومؤقتة إلى ثقافة ونهج، وتحول الأفكار إلى مشاريع ومبادرات مثمرة، تكشف المجهول وتنير الدروب، وتعلمنا تنفيذ مهام الحياة المتعددة من دراسة، وعمل، وعائلة، وحياة شخصية، بجودة ورقي.