في محبة "الست"
مجلة هي
دقت الساعة الخامسة صمت الجميع، واستقر كلٌ في موقعه، بينما امتدت يدٌ صغيرة، لتدير مفتاح المذياع وتضبط الموجة العصيّة على مكان محدد سلفاً، في انتظار أول رنة وتر، ليتنافس كل الحضور على معرفة الأغنية أولاً.
هذا مشهد ثابت في أكثرية البيوت المصرية حتى وقت قريب، إنه موعد "الست" الذي لا يخلفه أحد، إن كنت تتجول بسيارتك أو حتى على قدميك في الشوارع في ذلك التوقيت، يمكنك ببساطة أن تسمع الأغنية كاملة، وكأنما ترددها الأشجار ونسمات الهواء.
لم يكن هذا هو الموعد الوحيد لأم كلثوم مع جمهورها، فقبلها بأعوام، وعلى مدار عقود لا تقل عن الأربعة، كان موعد أم كلثوم الثابت مع جمهورها في الخميس الأول من كل شهر، في حفلتها الشهيرة التي تنقلها الإذاعة المصرية، حيث كان نفس المشهد يتكرر ولكن على نطاق أكبر، لن تكون مبالغة إن قلنا أن الشوارع كانت تخلو من المارة فعلاً في كل أرجاء الوطن العربي، انتظاراً لصوت الست.
"الست" بألف لام التعريف، هكذا يلقبها المصريون والعرب جميعاً، لفظ مطلق يُغني عن الكثير من الكلمات، ليس الوحيد بين ألقابها الكثيرة، لكنه الأقرب للألسنة والقلوب التي غزتها أم كلثوم بمنتهى السهولة منذ عام 1923 عندما أشرقت في سماء القاهرة مع بداية رحلتها الفنية الطويلة والعظيمة.
البدايات
تاريخ الميلاد ليس محدداً بدقة، إلا أن المؤرخين اتفقوا على أن الأقرب للصحة هو 31 ديسمبر 1898، بينما التاريخ الرسمي المسجل هو 4 مايو 1908، أما مكان الميلاد فلم يختلف عليه أحد، إنها قرية طماي الزهايرة التابعة لمركز السنبلاوين قرب مدينة المنصورة بمحافظة الدقهلية شمال شرق دلتا مصر، في سن الثامنة أو العاشرة على أقصى تقدير، كانت الطفلة أم كلثوم –وهو اسمها الحقيقي بالمناسبة وليس فاطمة- قد ذاع صيتها في قرى الدقهلية، كأعذب صوت في بطانة (فرقة) والدها المنشد المعروف وقتها، الشيخ إبراهيم السيد البلتاجي، برغم وجود شقيقها الأكبر خالد في نفس البطانة، وفي عام 1923 دعاها المجدد الموسيقي العظيم الشيخ أبو العلا محمد للحضور إلى القاهرة، فلم تتأخر، ورغم أنه كان عاماً حزيناً على الموسيقى المصرية برحيل عملاقها سيد درويش في سبتمبر، إلا أن بزوغ نجم الشابة القروية الصغيرة، منح الأمل في استمرار موجة التجديد التي صاحبت ثورة 1919، وصدحت أم كلثوم من على مسرح حديقة الأزبكية بأجمل القصائد والتواشيح الدينية.
أم كلثوم ورامي والقصبجي
في عام 1924 كان اللقاء الأول بينها وبين الشاعر الشاب العائد من فرنسا "أحمد رامي"، حيث كانت تغني قصيدته المعروفة "الصب تفضحه عيونه"، واستمع لها رامي كأنما لم يستمع إلى غناء من قبل، هذا اللقاء كان أصل قصة حب فنية استمرت أكثر من نصف قرن، امتعت الملايين من المحيط إلى الخليج بأروع القصائد والأغنيات العاطفية والوطنية على حد سواء.
وفي نفس العام التقت بمغرم آخر هو الموسيقار العظيم محمد القصبجي، الذي قدم لها بعد ذلك أروع ما غنت من نهايات العشرينيات، وحتى بدايات الأربعينات تقريباً، ما جعله يعد صانع مجدها الحقيقي مع رامي، دون إغفال لدور الثنائي الآخر الشيخ زكريا أحمد والشاعر الكبير بيرم التنونسي، إلا أن ما يميز ثنائي رامي – القصبجي هو تلك المشاعر الفياضة التي تنهال من كل عمل قدماه لها من خالص مشاعرهما الصادقة، بداية من أغنية "إن كنت أسامح وأنسى الأسية" في النصف الثاني من العشرينيات، والتي باعت ما يقرب من نصف مليون اسطوانة، وكانت بداية اسم "أم كلثوم" العظيم، وحتى التحفة الخالدة "رق الحبيب" عام 1941 التي كانت آخر ما قدمه لها القصبجي، الذي اكتفى بعدها بالجلوس خلفها عازفاً على العود حتى وفاته عام 1966.
رياض السنباطي
لا شك أن أشهر ما غنت أم كلثوم من جواهر خالدة، كان من ألحان رياض السنباطي، أحد أعظم الملحنين في العصر الحديث، والذي استمر تعاونه معها لأكثر من أربعين عاماً، بدأت في "على بلد المحبوب" عام 1935، وانتهت بالثلاثية المقدسة عام 1972، والتي كتبها صالح جودت، وما بينهما من "هجرتك"، "جددت حبك ليه"، "قصة الأمس"، "ثورة الشك"، "أراك عصي الدمع"، "الأطلال"، "من أجل عينيك"، "أقبل الليل"، "حديث الروح"، "القلب يعشق كل جميل"، وغيرها العشرات من الروائع الخالدة.
جيل الشباب
كانت أم كلثوم مشغولة بفكرة التجديد منذ بدايتها، فلم يمنعها حرصها على تقديم فن عربي أصيل، من التعاون مع شباب الملحنين الذين ظهروا في الخمسينات من القرن الماضي، واستغلال نظرتهم الجديدة للموسيقى، فتعاونت مع محمد الموجي، كمال الطويل، بليغ حمدي، وسيد مكاوي، بينما تأخر لقاءها مع موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب طويلاً، حتى التقيا معاً عام 1964 في رائعتهما "أنت عمري"، كلمات أحمد شفيق كامل، واستمر التعاون بينهما ليثمر عن عشر أغنيات من أشهر ما غنت أم كلثوم.
أم كلثوم وثورة يوليو
رغم تمتعها بمكانة عظيمة في فترة الملكية، إلا أن أم كلثوم كانت من أكثر المتحمسين لثورة يوليو 1952، وربطتها سريعاً بالزعيم جمال عبد الناصر علاقة مودة قوية، كانت المفضلة عنده، مثله مثل جميع أفراد الشعب، ورأت هي فيه زعيماً وطنياً مخلصاً، فغنت له من قلبها، وكرمها هو كما لم تكرم مطربة من قبل، فحصلت في عهده على تكريم في عيد العلم، وعلى جائزة الدولة التقديرية، كما منحها جواز سفر دبلوماسي، فكانت سفيرة لمصر في كل أنحاء العالم، وارتبط صوتها العظيم بصورة مصر الحضارة، فكان أن أطلقوا عليها "الهرم الرابع"، فكانت –بحق- هرماً حضارياً عصرياً يليق باسم مصر.
وفاة أم كلثوم
في يوم شتوي حزين، هو الثالث من فبراير 1975، رحلت أم كلثوم، بعد صراع مع المرض، أبعدها عن الساحة الفنية لما يزيد عن العام، ووسط دموعهم ونواحهم، خرج المصريون من مكل حدب وصوب بالملايين كعادتهم، ليودعوها في جنازة مهيبة تليق بالعظماء، إلا أن رحيل الجسد، لم يقلل من مكانة أم كلثوم العظيمة في قلوب محبيها مقدار خردلة، كل ما تغير في الأمر، أنهم استبدلوا موعد الخميس الأول من كل شهر، بموعد الخامسة من كل يوم، ليظل صوت أم كلثوم العظيم، يصدح بينهم إلى ماشاء الله.