سينما القلق والضوضاء في فيلم "White Noise".. دراما عبثية ورسائل مشوشة عن الأمل!
في أغنيته الشهيرة "الدنيا ريشة في هوا" غنى "سعد عبد الوهاب" من كلمات "مأمون الشناوي" وألحان "محمد عبد الوهاب" للحياة من منظور زاهد يُدرك حقيقة السعادة التي لا تدوم والموت القادم لا محالة، وكان سعد يُغني بأسلوب حالم ورزين لحن صاغه عبد الوهاب عن تفاهة الحياة التي لا تزيد عن كونها ريشة هشة تؤرجحها نسمات الهواء العابرة.
صدى تلك الأغنية الكلاسيكية تردد في ذهني وأنا أشاهد فيلم المخرج "نواه بومباخ" الأخير بعنوان "ضوضاء بيضاء" "White Noise" فالأغنية تُعبر ببساطة ومُباشرة عما أراد الفيلم أن يقوله بسخرية مُعقدة وسوريالية مُربكة.
مشاعر قاتمة وضوضاء بيضاء!
المخرج "نواه بومباخ" كتب وأخرج فيلمه الشهير "حكاية زواج" "Marriage Story"عام 2019، وتناول فيه قصة طلاق زوجين بعد علاقة حب بدأت دافئة، ثم عصفت بها التناقضات الشخصية والأنانية والإهمال، وفيه حاول الوصول إلى جذور الكراهية المدفونة أسفل علاقة زوجية تبدو جميلة على السطح.
في فيلمه الأخير "ضوضاء بيضاء" كتب سيناريو مأخوذ عن رواية كتبها "دون ديليلو" عام 1985، وتدور أحداثها في منتصف الثمانينيات في أوهايو الأمريكية، وتتناول حكاية بطليها زوجين أيضاً، ولكن أزماتهما العائلية لها أبعاد فلسفية ووجودية أكثر عمقاً وعبثية.
يُقدم "آدم درايفر" في "ضوضاء بيضاء" دور جاك وهو أستاذ تاريخ جامعي، تخصصه في حقبة هتلر والنازية، ولديه قلق خاص من الموت، ويتعرض الفيلم لثقافة الاستهلاك ونظريات المؤامرة والمخاطر الكُبرى التي تُربك المجتمع وتُربك تسلسل السرد في الفيلم، وكثير من الإشارات في الفيلم تبدو أعمق من الأحداث التي نراها على الشاشة؛ فالشخصيات تحمل أفكارها داخلها وتعيش حياتها اليومية بعفوية وتفاهة، ولكن الأمور تأخذ منحى أكثر جدية مع ظهور مخاطر متعددة، ومع اندفاع الأدرنالين إلى عروق الشخصيات والأحداث في النصف الثاني من الفيلم.
تشارك بابيت "جريتا جرويج" زوجها جاك القلق الزائد من الموت، ومن خلال سيناريو يميل للسخرية نُشاهد عائلة عادية من الطبقة المتوسطة تُكافح من أجل النجاة من الموت بصورته الصريحة بعد تعرض بلدتهم الصغيرة إلى حادث تسرب مواد كيماوية شديدة الخطورة من قطار صدمته سيارة نقل كبيرة.
نتمنى لكم مُشاهدة مُزعجة!
يبدأ الفيلم بالكثير من المشاهد ذات الحوار الأكاديمي الكثيف، بعضها يأتي على لسان البرفيسور موراى سيسكيند "دون تشيدل" الذي يربط بين مشاهد حوادث السيارات المُنفذة بصورة مُتقنة في الأفلام وفكرة التنفيس عن الجمهور، وكيفت تحولت تلك المشاهد التي تُحاكي مخاطر الحياة إلى أمر أشبه بطقس احتفالي يحتفي بالحياة؛ فالمُشاهد لا يتعرض لخطر حقيقي وهو يشاهد هذه الحوداث على شاشة السينما، بل لا يُخفي استمتاعه بها.
كثير مما يدور حولنا يصنع الضوضاء البيضاء، أو تلك الأصوات التي يأنس لها الإنسان لأنها تشغله عن أصوات قلقة تدور داخله؛ أشياء مثل هوس التسوق ومشاهدة اللقطات الخطرة والمخيفة على شاشة السينما، أو التهام الأطعمة السريعة ذات النكهات اللاذعة، والحلويات المعبأة داخل الأكياس الملونة الجذابة.
الخوف من الموت هاجس بطلا الفيلم، وكلاهما مُرتبط بوجود الأخر في حياته، وبأبنائهما وأغلبهم من زيجات سابقة، وهناك الكثير يحدث ويُقال على الشاشة، وكثير منها قدمها الفيلم بصورة لا تبعث على الراحة؛ فالفيلم يسعى للإزعاج ولكنه يُحاول تلطيف الأمر بقدر لا بأس به من التهكم والسخرية التي تُحاول تلطيف قتامة الواقع؛ الحديث عن القلق من الموت أمر يصعب تقديمه بصورة ضاحكة تُفقده مضمونه واحترام المتفرج؛ ولهذا يلجأ الفيلم إلى توليفة من الواقع الممل والخوف والسخرية، ويُمكن القول أن تصنيف العمل ككوميديا مجرد غطاء شكلي لدراما قاتمة وقلقة تُحاول أن تبث رسائل مشوشة عن الأمل والتفاؤل!
ما الدنيا إلا سوبر ماركت كبير!
يعتمد السيناريو على تكثيف التفاصيل اليومية العادية وإعادة صياغة مدلولاتها لتُلائم مضمون الفيلم الفلسفي؛ فهو يسرد علاقة جاك وبابيت وأولادهما بتفاصيل مُملة تشبه الحياة اليومية الخاملة لأسرة عادية، لكنه ينثر القلق والغموض حول تعاطي الزوجة عقار طبي سراً، وشكوك حول إصابتها بمرض ضعف الذاكرة، ثم تأتي حادثة تسرب مواد خطرة من القطار لتمثل ذروة الخوف والقلق في حياة العائلة والمدينة بأكملها؛ وهى الحالة التي تبدو كإسقاط على ما حدث للعالم مع إنتشار جائحة كورونا.
ينطلق الفيلم في ثلاثة مسارات، أحدها علاقة جاك وبابيت التي تتراوح بين الحب والتوتر والخيانة، والثاني أزمة جاك الوجودية مع الموت ومناقشاته مع زميله موراى، والثالث محاولة الأسرة الهروب من المدينة بسبب سحابة المواد السامة، وتصل المسارات الثلاثة إلى ذروتها وتختلط ببعضها البعض بصورة تتجاوز المنطق أحياناً؛ فالخوف والقلق يدفع الشخصيات إلى البحث عن الملاذ الآمن، والسعى نحو أى أمل مُتاح، وفي أوقات الهدوء والاستقرار يعود القلق من فقد الآمان، وتبدأ الشخصيات في البحث عن أى أنشطة ومُمارسات تجلب الراحة الزائفة وتمنحهم الشعور بالحياة.
مشهد الرقص داخل السوبر ماركت الكبير ربما يلخص ما أراده الفيلم؛ فالإنسان يُحاول التخلص من قلقه وهواجسه بتسوق أشياء لا يرغب بها، ويُحاول الإستمتاع بصخب الحياة لعله ينسى أنه زائل وأن الدنيا مجرد ريشة في الهواء.
الصور من حساب الفيلم على "انستجرام".