في ذكرى باستر كيتون صاحب الوجه الجامد الذي كاد أن يموت من الضحك.. نافس شابلن ويجسد شخصيته رامي مالك!
يمتلك الممثل "رامي مالك" وجهاً جامد الملامح، وعيوناً واسعة مُحدقة؛ وربما كانت هذه الملامح سبباً في ترشيحه لأدوار الشخص المُنطوي، غريب الأطوار، بداية من ظهوره في دور قاتل متسلسل في احدى حلقات مسلسل Alcatraz أو لاحقاً كشرير بوند السيكوباتي في فيلم No Time to Die "لا وقت للموت"؛ وغالباً كانت سبباً أيضاً لترشيحه مؤخراً لأداء شخصية الممثل الراحل "باستر كيتون" (4 أكتوبر 1895 - 1 فبراير 1966) ، ولكن الأسباب مُختلفة هذه المرة؛ فهو سيجسد شخصية ممثل أسطورة في عالم الكوميديا في حقبة السينما الصامتة، و"كيتون" مُمثل وُلد ليفعل كل شىء أمام الكاميرا في صمت، وكانت هيئته وأساليبه في الأداء الكوميدي تنبع من ملامحه المتجهمة وصمته ونظراته الجامدة المُغرقة في الوحدة والحزن.
صبي الجزار الموهوب!
يمتلك " باستر كيتون" مهارة إضحاك الجمهور دون أن يبتسم أو يُحرك عضلة واحدة في وجهه، وهذه مُهمة صعبة ستواجه "رامي مالك" أثناء تجسيده الشخصية في المسلسل القصير الذي أعلنت عنه شبكة HBO Max تحت عنوان "مشروع باستر كيتون"، ورُشح لإخراجه "مات ريفز"، مخرج فيلم " "The Batman"باتمان"، ويكتب السيناريو "تيد كوهين"، وهو كاتب عدد من الأعمال التليفزيونية الشهيرة؛ منها "Friends""الأصدقاء"، و" "Veep"نائبة الرئيس"، و "Succession""خلافة"، ولن تكون الصعوبة أمام رامي تقليد أداء كيتون الحركي الكوميدي أمام الكاميرا، بقدر قدرته على تجسيد شخصيته في الحياة العادية؛ فلا توجد مصادر أرشيفية كثيرة تصوره خلف الكاميرا.
نجاح "رامي مالك" في تجسيد شخصية المغني الراحل "فريد ميركوري" في فيلم Bohemian Rhapsody "رابسودية بوهيمية" عام 2018، وحصوله على أوسكار مُستحق عن دوره يجعل إنتظار مسلسله الجديد أمراً مُشوقاً.
يُعرف "باستر كيتون" كمُخرج ومُمثل صامت ومُجازف، وظهر في بداياته على شاشة السينما في أدوار صغيرة؛ منها دوره في فيلم "The Butcher Boy" "صبي الجزار" عام 1917، وهو دور مُساعد للممثل والمخرج "روسكو آرباكل" الذي يُعد المُكتشف الحقيقي لكيتون، وبعد أول يوم تصوير استعار "كيتون" احدي كاميرات التصوير؛ ليتعرف على كيفية عملها، وفي الفندق الذي أقام به قام بفكها وإعادة تركيبها مرة أخرى، ومن هنا بدأت علاقته بعملية صناعة السينما وأدواتها وتقنياتها، وبدأ "آرباكل" في الإستعانة بكيتون كمُخرج مُساعد، ولاحقاً بدأ "كيتون" في كتابة وإخراج أفلامه بنفسه في بداية العشرينيات من القرن الماضي، وكان عمره 24 عاماً حينما كتب وأخرج ومثل عدد من الأفلام القصيرة والطويلة، وأغلبها يُعد حالياً من أهم أعمال السينما العالمية.
المجازف والشغف بالقطارات!
كان "كيتون" يقوم بأداء المشاهد الصعبة شديدة الخطورة بنفسه، ومن أجل إبتكار مشهد ضاحك شديدة الأصالة كان يُعرض نفسه للموت، وهو مُلهم للعديد من نجوم أفلام الحركة المعاصرين؛ منهم "جاكي شان" الذي يمزج حركات الفنون القتالية والمجازفات بالكوميديا.
في العشرينيات والثلاثنيات من القرن الماضي لم تكن تقنيات الخدع مُتقدمة كما هى اليوم، وكان "كيتون" يُصمم مشاهده بإتقان ودقة وواقعية، وساعدته لياقته البدنية في تصميم وتنفيذ مشاهد حركة يصعب تصديق أنها كانت تتم أمام الكاميرا دون خدع، وقد أصبحت خالدة في تاريخ السينما؛ ففي بعض أفلامه يظهر وهو يُطارد سيارة ويتعلق بها في النهاية، لكنه يطير في الهواء مُتمسكاً بها، كما يواجه رياح شديدة تقذف به للخلف كأنه قبعة في مواجهة عاصفة، وهو يجري على سقف قطار في عكس اتجاه حركته، وهذه بعض افكار المُجازفات التي قام بتصميمها وتنفيذها بنفسه.
في فيلم Steamboat Bill, Jr. كان عليه الوقوف في موقع مُحدد أثناء سقوط واجهة مبنى تزن طنين فوقه، ولا يحدث له مكروه؛ وذلك بسبب مرور جسده من النافذة الوحيدة المفتوحة، وفي فيلم Sherlock Jr. "شيرلوك الصغير" يسقط خرطوم مياه ضخم فوقه؛ مما يتسبب في كسر احدى عظام عنقه، لكنه يُكمل التصوير ولا يكتشف الأمر إلا بعد مرور سنوات.
براعة "باستر كيتون" لم تقتصر على شجاعته في تنفيذ الحركات الخطرة فقط، بل في قدرته على تحويل الأفكار الكوميدية اللامعة إلى مشاهد سينمائية أصيلة وجذابة؛ ففي فيلم "جونيور الصغير" يُجسد دور عامل تشغيل ماكينة عرض سينمائي لديه شغف بعمل المُحقق البوليسي، وأثناء نومه يجد نفسه داخل أحداث الفيلم الذي يعرضه؛ مُجسداً شخصية المحقق الخيالي "شيرلوك هولمز"، ويتعرض هولمز في هذا الحلم إلى عدد من محاولات القتل الفاشلة التي يُدبرها شرير الفيلم.
من أكثر أفلام "باستر كيتون" شهرة فيلم The General "الجنرال"، وهو فيلم عن سائق قطار في فترة الحرب الأهلية الأمريكية، وقد تم رفض التحاقه بالخدمة العسكرية كجُندي بجيش الجنوب؛ بسبب أهمية مهنته المدنية، وتظنه عائلة خطيبته مُتهرباً من نداء الواجب، ولكنه يتورط أثناء قيادته قطاره فى وقائع مُطاردة كُبري لقطار مُحمل بالسلاح والجنود الشماليين؛ مما يجعله بطلاً في نظر الجميع.
عُرف عن "باستر كيتون" ولعه بالمشاهد الخطرة التي يؤديها على متن قطار متحرك، أو التي يُشارك فيها قطار بصورة أو أخرى، وبعض هذه المشاهد كانت مُكلفة وصعبة التنفيذ؛ مثل مشهد سقوط قطار حقيقي من فوق جسر يمر بنهر، وذلك في فيلم "الجنرال"، أو مشاهد أخرى له يقفز من عربة لعربة، أو يحاول تخليص قدمه العالقة في قضبان القطار قبل مرور القطار بثوان قليلة.
المُغفل صاحب الوجه الحجري!
بدأت علاقة "باستر كيتون" واسمه الحقيقي "جوزيف كيتون" بالتمثيل منذ طفولته؛ فقد شارك والديه في بعض عروض الفودفيل الكوميدية على المسرح، وحكى هو في لقاء تليفزيوني في الستينيات قصة حصوله على اسم "باستر" الذي يعني "المغفل"، وذلك حينما سقط وعمره عام ونصف على درج دون أى إصابة، وأطلق صديق لوالده (يقال انه الساحر هوديني) عليه اللقب الذي أصبح ملتصقاً به ومُعبراً عن طبيعة كثير من أدواره على الشاشة؛ فهو المُغفل الذي يفعل كل شىء بحماقة، ويتعرض للسقوط والإصطدام ويفشل في الإنتحار، ويتعرض لكثير من الحوادث ثم يقوم واقفاً سليماً معافاً، ينظر حوله بدهشة وبلادة كأن شيئاً لم يحدث، ثم يُكمل سيره.
كان لكيتون أسلوبه شديد التميز الذي يختلف عن معاصريه، وأبرزهم بالطبع "شارلي شابلن"؛ إذ تميل شخصية "شابلن" السينمائية للذكاء الفطري والخبث، وتعبيرات الوجه العاطفية، لكن "كيتون" كان جامد الملامح يُحدق ببلادة رغم أنه تعرض للتو لكارثة، ومن هنا حصل على لقب أخر غير المغفل، وهو الممثل ذو الوجه الحجري.
تمسك "كيتون" بالوجه الحجري للتمثيل يعود لطفولته؛ فقد كان والده يُلقي به على المسرح أثناء العرض، وكان هو يشعر بالسعادة الشديدة وتنطلق ضحكاته الصاخبة، ولكنه اكتشف انه كلما ضحك هو قل ضحك الجمهور، وبدأ يتحكم في تعبيرات وجهه وانفعالاته حتى أصبح ذلك سمة مميزة لديه.
حينما التفت النُقاد إلى أهميته الإبداعية في تاريخ السينما الصامتة كان ذلك في سنواته الأخيرة، وبدأ بعضهم طرح المُقارنة بينه وبين "شارلي شابلن"، والبعض وضعه في نفس المرتبة من حيث الأهمية، وهناك أصوات رأت أنه أكثر موهبة وإبتكاراً من "شارلي"، خاصة أنه ظل مُخلصاً للأداء الصامت حتى حينما نطقت السينما، وكانت جمل حواره محدودة في أفلامه الناطقة، وظل يعتمد على الأداء الحركي ويبتكر المزيد من المُجازفات الفكاهية.
قطار العودة الأخير!
مسيرة "كيتون" بدأت ثرية ومُلهمة لكنها تعرضت للتراجع بعد بيع عقده إلى شركة مترو جولدن ماير، وهو أمر أفقده السيطرة على صناعة أفلامه؛ ففي شركة مترو يتم تخطيط كل شىء يتعلق بالسيناريو والإنتاج وتفاصيل التصوير بدقة مُسبقاً، ومن غير الوارد تغيير تلك التفاصيل، كما أن نوعية الموضوعات والسيناريوهات التي تُفضلها مليئة بالحبكات والشخصيات، وهذا يختلف عن الموضوعات التي يميل إليها "كيتون".
مع نهاية العشرينيات ومع أزمات عائلية عميقة، وأخرى تتعلق بإدمان الكحول، بدا للجميع أن مسيرة فنان موهوب بدأت تغرب، ولكنه يعود بعد سنوات للعمل بشكل أقل، وبمرور الوقت يظهر كضيف شرف ببعض الأفلام، ويتركز نشاطه على كتابة النكات والاسكتشات الكوميدية في بعض أفلام الأخوة ماركس، كما قدم المشورة والنصح للممثلة "لوسيل بول".
ظهر "كيتون" كضيف شرف في عدد من الأعمال في الخمسينيات، منها اسكتش كوميدي عن عازف كمان فاشل، وشاركه "شارلي شابلن" كعازف بيانو أحمق، وذلك ضمن أحداث فيلم "Limelight" "أضواء المسرح"، والفيلم تاليف وبطولة واخراج "شابلن"، وكان عن ممثل عجوز يُحاول استعادة مجد الماضي، ويُصبح مُلهما لجارته الراقصة الشابة التي حاولت الإنتحار، ويُمثل المشهد الذي جمع "شارلي" و"كيتون" نوعية الكوميديا الهزلية التي قدماها في بدايتهما، ويعكس مشهدهما النادر معاُ شهورهما الحقيقي بتجاوز الزمن لهما.
في عام 1965 وقبل وفاته بعام قام "كيتون" ببطولة فيلم قصير ملون بعنوان "The Railrodder" وهو عمل صامت ضم ملامح مميزة من شخصيته السينمائية؛ بداية من إعتمار قبعة البور باى الرفيعة التي تميز بها، والاسكتشات الكوميدية التي تتضمن قطار؛ وكان موضوع الفيلم يتعلق برحلة على قضبان القطار على متن عربة صيانة سريعة وصغيرة، وخلال الرحلة قدم الفنان العجوز الكثير من الأفكار الضاحكة التي استعاد فيها روح الكوميديا التي قدمها في شبابه.
لا زال تراث "كيتون" موضوعاً للكتب والأعمال الفنية؛ فبالإضافة إلى المسلسل المرتقب صدرت في بداية عام 2023 سيرته الذاتية في رواية كوميكس بعنوان "Buster: A Life in Pictures" "باستر: حياة مُصورة"، وخلال العام الماضي صدر عنه كتابين، في كل واحد منهما تحليل وسرد لمسيرته في الحياة وفي عالم السينما وفنون الترفيه.
الصور من صفحات باستر كيتون ورامي مالك على "تويتر" و"انستجرام"