خاص "هي" - "تيتانيك" النموذج الأشهر.. كيف تؤثر دراما المأساويات على أسر الضحايا والناجين؟
"ندين بالحقيقة لمئات الأرواح التي زُهقت تلك الليلة عام 1912؛ حتى الآن أشعر بالمسؤولية تجاه الأحياء والأموات.. هل أصبنا في عملنا؟".. بهذه الكلمات عَبر جيمس كاميرون، مخرج فيلم "تيتانيك" الذي طرح لأول مرة عام 1997، وأعيد عرضه قبل أيام بمختلف دول العالم بتقنيتي "3D، 4K" احتفالا بمرور 25 عاما على العرض الأول، عن مشاعره في الفيلم الوثائقي الذي حمل عنوان "التيتانيك بعد 20 عاما".
خلال الوثائقي المعروض عبر منصة "ديزني" والذي تبلغ مدته 47 دقيقة، قرر "كاميرون" أن يُقيم نتاج عمله الدؤب ليرى ما إذا كان قد نجح بالفعل في تجسيد تلك الكارثة بشكل دقيق يحاكي ما حدث آنذاك حينما اصطدمت السفينة بالجبل الجليدي خلال رحلتها من ساوثهامبتون بإنجلترا إلى مدينة نيويورك، لتغرق بعد ساعتين و40 دقيقة بقاع المحيط الأطلسي، تاركة وراء حطامها 700 ناجيا من بين أكثر 2200 راكبا.
كما تطرق للحديث عن الأثر النفسي الذي لحق بأسر الناجين والضحايا عقب عرض ذلك الفيلم الذي تم إنتاجه بعد مرور 85 عاما فقط من وقوع الكارثة، من خلال إجابته على السؤال الذي طرحته عليه مافيت لوري براون، حفيدة مارغريت بروان، إحدى الناجيات من حادث غرق تيتانيك والتي ظهرت خلال عمله الروائي باسم "مولي"، بشأن الشيء الذي يود أن يغيره بعد مرور كل هذا الوقت.
أثر تجسيد الكوارث والمأساويات على الناجين وأسر الضحايا
كان "كاميرون" موضوعيا في إجابته، فالزمن منحه الوقت الكافي ليحلل كل التفاصيل التي رسمها لكل شخصية وأن يخرج باستنتاج كان مفاده أنه لم يضع في اعتباره عائلات الضحايا والناجين، حيث قال: " صحيح أنني كنت أعرف أن العمل تاريخي لكنني لم أكن حساسا تجاه العائلات وما عنته القصة لهم، وفي حالة الضابط الأول وليام ماكماستر مردوك هذه .. أخذت الحرية في إظهاره يطلق النار على شخص ما ومن ثم ينتحر، إنه شخصية حقيقية لم يكن شخصية عامة، لا نعلم إن كان قد فعل هذا بالفعل، لكن كنت أقول لنفسي كوني الراوي سأبدأ بربط الأمور ببعضها، كان يقوم بعمله وكان يحمل كل هذا العبء وهذا ما جعله شخصية مشوقة، لكني كنت مخرجا ولم أجعل الأمر كأنه من وجهة نظر المؤرخ، أعتقد أنني لم أكن حساسا تجاه واقع أن عائلته ومن نجا منها قد يشعرون بالإهانة من هذا ولقد شعروا كذلك.. أشعر أنه كان يجب علي أن أجعله شخصية عامة أكثر وكأنه مجرد شخص عادي هناك في ذلك الزمان والمكان".
ضوابط ومعايير مطلوبة
علق الناقد الفني محمد عبد الرحمن لـ"هي"، على ما سبق حيث قال إن تناول الحوادث المأسوية في الأعمال الفنية يفضل أن يتم بعد فترة زمنية طويلة من وقوع الحادث، وذلك لتحقيق هدفين، الأول هو أن يُلم صناع العمل بكل التفاصيل خصوصا تلك التي تتكشف بعد مرور سنوات من الحادث أو الكارثة الطبيعية سواء كانت غرق أو زلزال أو تسونامي، حيث لا تتوفر معظم الشهادات والكواليس في الأيام التالية للحدث بل ينتظر الكثيرون لأعوام حتى يطلقوا كل ما لديهم، أما الهدف الثاني وهو الأهم من وجهة نظري، تفادي إثارة مشاعر الحزن والأسى عند ذوي الضحايا أو الناجين الذين يعيشون لسنوات معاناة من كرب ما بعد الصدمة، والأهم بالطبع هو تناول الجانب الإنساني من تلك الأحداث دون إعادة تجسيد المشاهد الصعبة كما هي، لعدم إثارة فزع المتفرج وأيضًا احترام مشاعر المتضررين.
المقابلات التي أجراها جيمس كاميرون، مع بعض أفراد عائلات الضحايا والناجين لسماع قصصهم وشعورهم تجاه أسلافهم خلال الوثائقي، أكدت على ضرورة الاهتمام بالهدف الثاني تحديدا الذي ذكره "عبد الرحمن"، حيث قالت جاكي دريكسل، حفيدة جون جاكوب إستر، ومادلين إستر التي كانت حاملا آنذاك في شهرها الخامس، إن تصوير وجوه الضحايا في المياه جعلها تشعر بقشعريرة، مؤكدة أن المشاهد كانت صادمة بالنسبة لها، ليرد عليها "كاميرون" معبرا عن ندمه: "أعتقد أن أحد الأمور التي أدركتها بعد الفيلم أن هذا ليس تاريخا قديما".
اتفق المخرج تامر عشري في حديث لـ"هي"، مع الآراء السابقة حيث أكد أن هذه النوعية من الإنتاجات يجب أن تتم وفق معايير خاصة أهمها مراعاة الجانب النفسي للمشاهد، موضحا أنه الناس عموما ترتبط وتتأثر كثيرا بالحوادث المأساوية، لذا فإن إعادة تجسيدها يتضمن حساسية كبيرة، وهذا ما يحتم على صانع العمل أن يلتزم بمصداقية الحدث، وأن يسرد الوقائع والأحداث بطريقة تجنبه إثارة غضب أو حزن المتفرج خاصة وإن كان من ذوي الضحايا.
بالعودة للوثائقي، فإن بول كورزمان، حفيد إيزيدور ستراوس الذي فضل أن يموت هو وزوجته آيدا سويا على متن السفينة بعد زواج دام لـ 40 عاما، كان قد قال إنه عندما انتهى من مشاهدة الفيلم لم يستطع أن يتحرك أو أن يغادر قاعة العرض، موضحا أن دقة العمل سحرته، هذا ما دفع المخرج ليوضح أنه وفريق العمل قاموا بأفضل عمل ممكن بناء على المعلومات المتاحة، حيث استعان بكل صورة معلومة وبالرسوم الهندسية، وتم بناء سفن دقيقة تحاكي تيتانيك من خلال وضع كل شيء في مكانه المناسب.
وهذا ما يؤكد على الهدف الأول الذي ذكره الناقد محمد عبد الرحمن، بشأن إلمام صانع العمل بكل التفاصيل، وخير دليل على ذلك حينما أكد المخرج في الوثائقي أنه تم تصوير الفيلم في 1996 بينما دخل إلى جناح "ستراوس" الأصلي في عام 2005، وهذا يعني أنه كان يعمل على شيئا مجهولا إلى حد ما.
علاقة الرومانسية بالأعمال المأساوية
خلال الـ 25 عاما السابقة، تحولت سفينة "تيتانيك" إلى رمز أيقوني في تاريخ السينما العالمية، فبخلاف التفاصيل المأساوية وأثرها السلبي على ذوي الضحايا والناجين، فإن دمج التفاصيل والوقائع التاريخية الأصلية بالقصة الرومانسية التي دارت حول "جاك" و"روز"، خلق توليفة نالت إعجاب الكثيرين، بل وتركت بصمة غائرة في ذاكرة الجمهور من كل الفئات والأعمار، حتى أنه تم تقليد المشهد الرومانسي الشهير بين بطلي العمل أثناء تواجدهما في مقدمة السفينة بشكل هزلي في فيلم "أمير البحار" للفنان محمد هنيدي.
فسرت مديحة الصباح، الحاصلة على دكتوراه في علم النفس من جامعة عين شمس ومدير إدارة البروتوكولات والمراسم بالمركز القومي لثقافة الطفل بوزارة الثقافة، الأمر قائلة إن الدراما أو الأعمال الفنية هي انعكاس لأحداث سواء تراثية أو معاصرة، وتختلف هذه الأحداث من زلازل أو براكين أو غرق أو أحداث إرهابية، إذ أن لكل حدث مردوده الخاص على المجتمع العالمي أو المحلي، ويتناوله صناع العمل برؤية ووجهة نظر تختلف عن رؤية المشاهدين.
فيما أوضح المخرج تامر عشري، أن تناول القصص الرومانسية بشكل عام داخل الحدث المأساوي لا يقلل من هول الحدث، لكنه يخلق دراما تجذب انتباه الجمهور وتجبره على متابعة باقي الأحداث، إذ أن المشاهد يرتبط طوال الوقت بالأشخاص الموجودين بالعمل سواء كانوا حقيقيين أم مختلقين من خيال الكاتب، مشيرا إلى أن الحكايات الرومانسية هي أكثر شيء يربط الجمهور بالأحداث، لأنها تجعل المتفرج يرتبط إنسانيا بالعمل الفني.
متى يختار صانع العمل تجسيد الحدث بشكل درامي أم وثائقي؟
وجهة نظر "عشري" وصفت بدقة تلك الحالة التي خلقها فيلم "تيتانيك" عقب عرضه للجمهور العادي ممن لا تربطهم صلة قرابة بهؤلاء الذين كانوا على متن السفينة المنكوبة آنذاك رغم عرض مشهد غرق السفينة خلال أحداث الفيلم على مساحة زمنية كافية لسرد تفاصيل الحدث المؤلم، إلا قصة "جاك" و"روز" كانت لها نصيب الأسد من تعاطف الجمهور.. تهشم السفينة، المحاولات المستميتة للبقاء على قيد الحياة، تساقط الضحايا، انطفاء الأضواء، انتشار الجثث الطافية على سطح المحيط، رائحة الموت الطاغية على المشهد الأخير، والصمت الكئيب، كل ذلك كان مؤلما بالطبع وربما أبكى من شاهدوه على الشاشة، إلا أن النهاية التي وضعها الموت لقصة حب "جاك" و"روز" التي لم تستمر سوى يوم أو يومين، كان أكثر إيلاما لدى البعض.. هذا ما يطرح تساؤلات حول ما إذا كان من الأفضل إنتاج مثل هذه الأعمال بشكل درامي أم وثائقي؟!
رأى الناقد الفني محمد عبد الرحمن، أن المفاضلة بين الدراما والوثائقية هو أمر يعود لصانع العمل نفسه ولطبيعة القصة والمواد المتوفرة، وما إذا كان صانع العمل يستطيع تحقيق أفضل نتيجة باستعادة الشهادات الحقيقية واستضافة الناجين والمنقذين مثلا إذا كان ذلك متوفرا له بالأساس، أن يريد إعادة تجسيد ما تم مستفيدا من مرونة القالب الدرامي وقدرته على انتقاء الزاوية المناسبة للتعبير الفني عن الحادث المأساوي أيا كان نوعه.
فيما قال "عشري" إن أي حادث أو حدث درامي حقيقي يتضمن في الأصل جزء وثائقي وبالتالي إذا تمت صياغته بشكل فني فإنه يجب مراعاة ذلك الجانب ودمجه جيدا مع الدراما، لافتا إلى أنه من الممكن أن يُقدم صانع العمل على صياغة أحداث مستوحاة من حادث ما لكنه لا يهتم بالجانب الحقيقي ولكن ذلك لا يمنعه من أن يكون موضوعيا في تناوله الدرامي.
كيف تؤثر طريقة عرض المأساويات على المتلقي؟
غرق "تيتانيك" لم تكن الكارثة الوحيدة التي تم تجسيدها فنيا، فبخلاف الإنتاجات الأجنبية، فقد تضمنت الصناعة العربية العديد من الأعمال وكان أشهرها على سبيل المثال وليس الحصر قصة "ريا وسكينة"، التي تكرر عرضها في السينما والتليفزيون المصري بنفس الاسم عدة مرات على مدار سنوات، كانت البداية من خلال فيلم تم إنتاجه عام 1952 للمخرج صلاح أبو سيف، وتأليف لطفي عثمان، وقام ببطولته أنور وجدي، فريد شوقي، شكري سرحان، سميرة أحمد، نجمة إبراهيم، وغيرهم.
وصيغت القصة بشكل آخر عام 1983، لكن هذه المرة كانت من إخراج أحمد فؤاد، وتأليف شريف المنباوي، وبطولة يونس شلبي، شريهان، حسن عابدين، نعيمة وصفي، سميحة توفيق، نعيمة الصغير.
وفي 2005 تم تجسيد القصة للمرة الثالثة في التليفزيون، ورغم أنها تضمنت تفاصيل درامية رومانسية وإنسانية، إلا أنها كانت الأقرب للحقيقة حيث تم سرد سيرة المجرمتين والضحايا وكشف تفاصيل نهايتهما، والعمل أخرجه جمال عبد الحميد، وألفه صلاح عيسى، فيما قام ببطولته كل من عبلة كامل، سمية الخشاب، سامي العدل، رياض الخولي، أحمد ماهر، صلاح عبد الله، وغيرهم.
وعن ذلك علقت الدكتورة مديحة الصباح، مؤكدة إن التركيز على أحداث مثل "ريا وسكينة" أو حوادث كغرق السفن وغيرها، له مردوده السلبي على المجتمع والمشاهدين، لافتة إلى أنه من الأفضل أن تبرز الدراما الجوانب الإيجابية لأن عرض النماذج السلبية ما هي إلا تشويه للمجتمع.
الصور من حساب فيلم "تيتانيك" على "فيس بوك".