خاص "هي"- رسالة مهرجان كان.. فيلم "بنات ألفة".. مخرجة واحدة و3 شخصيات يقدمن تجربة رائعة
كوثر بن هنية أصبحت من الأسماء شديدة الأهمية في مجال الإخراج، ليس على المستوى العربي فقط بل الدولي كذلك، يمكن القول إنها تخطو مع كل فيلم جديد إلى مغامرة جديدة، وتخوضها بثقة، ثم تنتقل لمغامرتها التالية. اللافت هو أنها من المخرجات اللاتي يحافظن على إيقاع جيد في صناعة أفلامها دون أن تتنازل عن الجودة، إذ قدمت منذ 2013 حتى 2023 خمسة أفلام طويلة، تتخللها بعض الأفلام القصيرة أيضًا، وعرضت أفلامها في أبرز المهرجانات، وصولًا إلى الترشح لجائزة الأوسكار عن فيلمها السابق "الرجل الذي باع ظهره".
مع مسيرة مثل هذه، وتحديدًا بعد نجاح الفيلم سابق الذكر، فإن التجربة التالية تصبح أكثر صعوبة، وربما تمثل ثِقَلًا أكبر على عاتق المخرجة، إذ أن الأغلبية ستطالبها بصناعة فيلم أفضل من سابقه. جاءت مغامرة كوثر الجديدة مع فيلم "بنات أُلفة" الذي كان الإعلان عن مشاركته في مسابقة مهرجان كان من المفاجآت السارة، وهو يأتي ضمن قائمة الأفلام التي يدعمها صندوق مهرجان البحر الأحمر السينمائي.
فيلم عصي على التصنيف
في السنوات الأخيرة بات المزج بين القالبين الوثائقي والروائي أمرًا معتادًا، فنجد أفلامًا روائية تحمل طابعًا وثائقيًا مثل "Nomadland" (أرضل الترحال) إخراج كلوي شاو، أو أفلامًا تمزج خطوطًا روائية مع لقاءات تسجيلية مثل ”107 Mothers“ (١٠٧ أمهات) للمخرج بيتر كريكس. في فيلمها الأحدث، تجعلنا كوثر بن هنية نشاهد كواليس صناعة فيلم روائي بطولة هند صبري عن أُلفة وبناتها، لكن في حقيقة الأمر لا يوجد فيلم روائي سيُصنع، بل هذه الكواليس هي جزء من الفيلم التسجيلي الذي نشاهده هنا. وهذا هو ما يمكننا بالتأكيد أن نطلق عليه مغامرة، إذ أنه من السهل جدًا أن يصبح الأمر مربكًا للمشاهد، أو أن تكون النتيجة هي الاهتمام بالتوازن بين الجانبين التمثيلي والتسجيلي وبالتالي يضيع بناء السيناريو والقصة نفسها التي يقدمها الفيلم.
هل تنقل الحقيقة أم تدفعها للظهور؟
هناك خطأ لدى بعض المشاهدين، أن الأفلام الوثائقية هي تلك التي تنقل الحقيقة، بينما هناك قاعدة بسيطة تقول إنه طالما اختار المخرج أن يضع كامريته في هذه الزاوية تحديدًا واختار هذه اللحظة تحديدًا فإنه لا ينقل الحقيقة، بل ينقل وجهة نظره عن الموضوع، والذي يمكن أن يكون في النهاية جانب من الحقيقة وليس الحقيقة كلها.
تتجاوز كوثر بن هنية هذه الفكرة سريعًا، إذ في المشهد الأول نتعرف على الشخصيات وكأننا نستمع إلى إحدى قصص الأطفال: ”أُلفة عندها أربع بنات، اتنين عايشين، ورحمة وغفران أكلهم الديب“. ومن هنا تنطلق الفكرة كلها إذ أننا خلال مدة الفيلم نحاول التعرف على أُلفة وعلى بنتيها، والأهم أن نعرف كيف أكلهما الديب، ومثل كل الحكايا من هذا النوع، فإنها تخضع لوجهة نظر واحدة، وهو ما تلتزم به المخرجة بشكل دقيق.
نتعرف على أُلفة، امرأة تونسية متوسطة الحال، ثم نتعرف على بنتيها آية وتيسير، ثم نشاهد أن كوثر بن هنية بصدد صناعة فيلم عن هذه الأسرة الصغيرة، لتأتي هند صبري لتلعب دور أُلفة، وكلًا من نور القاروري وإشراق مطر دوري رحمة وغفران، البنتان اللتان "أكلهما الديب". لن نستغرق دقائق قليلة حتى ندرك اللعبة المحكمة التي وضعتنا داخلها كوثر بن هنية، إذ سنشاهد هند تلتقي مع أُلفة وتلقن الأخيرة الأولى تفاصيل حياتها، بينما تعمل لمسات المكياج مع الملابس على تقريب هند من ألفة شكليًا، لكننا لن نشاهد الفيلم الذي تصوره هند قط، لأن ما نشاهده هو الفيلم بالفعل، حتى أننا لا نشغل بالنا بالتساؤل عن السبب وراء عدم وجود ممثلتين لأداء دوري آية وتيسير، بل سننغمس سريعًا في التجربة.
المزج بين التسجيلي والروائي، وفكرة إعادة تجسيد المشاهد بهذه الصورة ربما ليست جديدة، بل إنه من المعروف أن بعض التجارب الوثائقية في بعض الأحيان تعتمد على إعادة تجسيد الشخصيات الحقيقة للمشاهد التي عاشوها، لكن المخرجة هنا تعتمد على التنقل بخفة بين مشاهد أُلفة وهند، تارة مع إعادة ترديد الأخيرة لعبارات أُلفة بنفس الأداء، وتارة أخرى بأن نستمع إليهما يرددان نفس الجمل معًا، والأجمل هو أن يستخدم الفيلم قطعات المونتاج لننتقل بين أُلفة وهند داخل نفس المشهد.
هذا المزج أضاف متعة خاصة للفيلم، أولها هو أنه جعل الشخصية الرئيسية تتحدث عن نفسها بشكل سلس وتلقائي دون اللجوء لطريقة الحوارات التقليدية، حتى وإن كانت هذه الحوارات موجودة في مشاهد أخرى، ولكن تظل طريقة ألفة وهي تشرح لهند ما فعلته مثلًا في ليلة زفافها مع زوجها من المشاهد التي تحتوي على كوميديا مؤلمة، ولم تكن لتخرج بنفس الصورة لو كنا شاهدنا الشخصية تتحدث عنها بشكل تقليدي أمام الكاميرا.
في الطريق لملاقاة الديب
طوال مدته التي تقترب من الساعتين، نتعرف على قصة أُلفة وبناتها، التي هي قصة مأساوية بالتأكيد، ولما كانت الشخصية الرئيسية صاحبة شخصية قوية وحضور جذاب، فإننا نلمح في البداية ملامح لمأساة قادمة لكننا لا ندرك أبعادها سوى مع النصف الثاني للفيلم، وربما كان التمهيد للفصل الأخير، الذي يتحدث عن تحول البنتين الكبريين أخذ وقتًا أطول من اللازم، لكن جاذبية الحالة ككل يجعلنا نستناسى هذه الإطالة.
دون أن يرفع الفيلم شعارات سياسية، فإنه يمر بشكل دقيق على ما حدث لشريحة من المجتمع التونسي في الفترة التي سبقت وتلت الثورة التونسية في 2011، وكيف كان لها تأثير كبير على المجتمع، بعيدًا عن التغييرات السياسية، ووصول أي حزب إلى سدة الحكم، وهو ميزة أخرى في هذا الفيلم الممتع الذي يمكن أن تشاهده كقصة معاناة امرأة قوية مع بناتها الأربعة، أو كنظرة قريبة على فترة تزيد عن 10 سنوات من التاريخ التونسي المعاصر.
فيلم "بنات أُلفة" ربما هو العمل الأفضل للمخرجة كوثر بن هنية، ولا يمكن التعامل معه كمجرد تجربة جيدة في مسيرة المخرجة بل كفيلم شديد الأهمية في كيفية اختيار الأسلوب المناسب لنقل القصة والشخصيات الحقيقية إلى شاشة السينما.