خاص "هي" - رسالة مهرجان كان.. فيلم "وداعًا جوليا" ومحاولة الوقوف على الخط الفاصل بين الجاني والضحية
في سنوات قليلة استطاعت السينما السودانية أن تحجز لنفسها مكانة شديدة القوة ليس فقط على المستوى العربي بل الدولي أيضًا، من خلال أفلام مثل "الحديث عن الأشجار" إخراج صهيب الباري، و"ستموت في العشرين" إخراج أمجد أبو العلاء، وهذا الأخير تحديدًا يعمل منتجًا في الكثير من الأفلام الأخرى، ونجح في تحقيق ما يمكن أن نطلق عليه حركة سينمائية سودانية معاصرة، بمشاركة العديد من المخرجين والمنتجين الآخرين.
منذ مراحل إنتاجه الأولى، وتواجده في مهرجان الجونة السينمائي في منصة الجونة، وقد نجح فيلم "وداعًا جوليا" للمخرج محمد كردفاني في جذب الأنظار له، وهو من ضمن قائمة الأفلام التي يدعمها مهرجان البحر الأحمر السينمائي، وكان من الأعمال المنتظرة، وانتهى الانتظار بعرضه في مسابقة "نظرة ما" في مهرجان كان السينمائي 76.
سياسة أم إنسانية؟
تدور أحداث الفيلم في إطار عدة سنوات، مع الوقوف تحديدًا عند عام 2005، العام الذي أُعلنت فيه الهدنة لإنهاء الحرب الأهلية، ثم الاستفتاء عام 2011 الذي كانت نتيجته تقسيم البلد إلى نصفين، السودان وجنوب السودان. تأتي هذه الوقائع السياسية في خلفية الأحداث، إذ نتابع منى (إيمان يوسف)، التي تحاول التكفير عن ذنب غير مقصود ارتكبته، من خلال رعاية جوليا (سيران رياك) الفتاة الفقيرة من جنوب السودان وطفلها، بينما تخفي عن جوليا السبب الحقيقي لاهتمامها بها.
هناك صعوبة دائمة في تناول هذا النوع من الموضوعات التي تتخللها السياسة، إذ أن التداخل بين الدراما والسياسة أمرٌ حتمي في هذه الحالة، والصعوبة تكمن في ألا يتحول الفيلم إلى منشور سياسي زاعق، بل يعطي الأولوية للدراما نفسها والشخصيات التي ستعكس بالضرورة تداعيات السياسة.
من الأمور اللافتة التي يقدمها كردفاني في فيلمه هو كيفية الدخول بسلاسة في الأحداث الرئيسية، دون أن يأخذ وقتًا طويلًا لشرح خلفيات الأحداث، من المشهد الأول سندرك أن هناك صراعًا أهليا ما، ولاحقًا ندرك طبيعته دون الحاجة إلى استهلاك مشاهد طويلة لشرح طبيعة الصراع السياسي. ربما يحتاج المشاهد الذي لم يقرأ عما حدث في السودان إلى المزيد من الشرح ليفهم سبب وصول الأحداث إلى هذه النقطة، لكن هذا لن يفسد متعة المشاهدة.
تجد الإشارة أيضًا إلى أن هذا الفيلم هو الروائي الأول الذي يتناول هذه المرحلة ويحاول تحليلها، وهو بالتأكيد أمر سيحسب للمخرج لاحقًا عند ظهور المزيد من الأفلام. وقد اختار كردفاني أن يروي ما حدث من خلال متابعة شخصيتي منى وجوليا، امرأتان على النقيض في أغلب الأشياء، الأولى ثرية مسلمة شمالية والثانية فقيرة جنوبية مسيحية، لكن تشترك كلتاهما في أنهما تحاولان التمسك بكرامتها وشخصيتهما في ظل ظروف سياسية واجتماعية شديدة القسوة.
من الضحية ومن الجاني؟
التحدي الآخر الذي كان أمام كردفاني هو الذي يضعه أمامه أي مخرج يصنع فيلمًا عن حدث فيه طرفين بينهما صراع حساس، ولكل منهما أتباعه. يلجأ بعض صناع الأفلام في هذه الحالة إلى نظام المرآة، فما يحدث للشخصية الأولى يحدث بحذافيره للشخصية الثانية، وفي السينما المصرية هناك نموذج شهير وشديد الضعف في المعالجة هو فيلم "حسن ومرقص" إخراج رامي إمام. لكننا في "وداعًا جوليا" ندرك مبكرًا أن الصورة ليست بهذا التماثل المعتاد، مع ما في ذلك من مغامرة إذ قد يرى بعض المشاهدين أن صناع الفيلم انحازوا إلى طرف على حساب الآخر. في البداية نشاهد أن الطرف الأقوى هو الشمالي، وأن الجنوبيين ضحايا بشكل لا يقبل الجدال. يحاول المخرج قرب نهاية الفيلم أن يمنحنا نظرة مغايرة أيضًا عن الجنوبيين، فليسوا ملائكة ولكنهم ليسوا شياطين أيضًا.
يساعد على هذا الاختلاف وعدم التماثل في مناقشة الجانبين، الاختلاف الواضح في رسم شخصيتي منى وجوليا، وصراع كل منهما. فبينما يحرك منى الشعور بالذنب تجاه جوليا، والخوف أيضًا من فقدان زوجها، يحرك جوليا الرغبة في الحفاظ على ابنها. وإن كان يمكننا أيضًا أن نشير إلى بعض التفاصيل التي احتاجت إلى تدعيم أكبر في رسم الشخصيات، مثل طريقة تفاعل جوليا مع اختفاء زوجها، وطريقة إنفاق منى التي بدت أكثر بذخًا مما تتيحه تفاصيل الشخصية التي نشاهدها.
رغم معرفتنا المسبقة بأن الانفصال سيقع، فإن الفيلم يحاول أن يجيب عن سؤال آخر بعيدًا عما كُتب في المواقع والصحف، وهو لماذا وقع الانفصال، ولماذا وصل الأمر بالسودانيين إلى هذه النتيجة، وإن كان فيلم واحد لا يكفي، فإن "وداعًا جوليا" قد قدم محاولته التي نراها جيدة بالتأكيد للإجابة عن هذه الأسئلة.
الصور من حساب يسرا وماد سولوشن بانستجرام