خاص "هي"- رسالة مهرجان كان.. فيلم "كذب أبيض": عن بيت قابل للكسر
مشاركة قوية للمغرب في الدورة ٧٦ لمهرجان كان السينمائي، بين فيلم "الثلث الخالي" إخراج فوزي بن سعيدي المعروض في قسم "Quinzanne" ومشاركة مريم توزاني في لجنة تحكيم المسابقة الرسمية، ومؤخرًا عرض فيلم "كذب أبيض" إخراج أسماء المدير وهو من الأعمال التي يدعمها صندوق مهرجان البحر الأحمر السينمائي، ويشارك الفيلم في مسابقة "نظرة خاصة".
الفيلم هو الوثائقي الطويل الثاني لأسماء المدير بعد "في زاوية أمي"، ومرة أخرى تقترب المخرج من موضوعات شديدة الشخصية، لكنها هنا تحكي بشكل مزدوج عن ماضي أسرتها الصغيرة، والذي بدوره يعكس مرحلة شديدة الحساسية من التاريخ المغربي، وهي "سنوات الرصاص".
دُمى على قيد الحياة
سنوات الرصاص ليست أمرًا جديدًا على السينما المغربية، إذ قُدمت في عدة أفلام من قبل، فما الجديد الذي يمكن أن تقدمه أسماء المدير في فيلمها؟ الأمر الأول هو كيفية تقديم حكايتها، وهو أهم رهانات هذا الفيلم. نشاهد في بداية الفيلم زقاقًا صغيرًا مصنوعًا من الورق المقوى، بالإضافة لدمى من الطين على شكل شخصيات مختلفة.
هذا الزقاق هو الذي ضم بيت أسماء وأسرتها، والدمى تمثل أفراد الأسرة المختلفين. هذه الأسرة تبدو في البداية تقليدية تمامًا، جدة أسماء لأبيها، شخصية قوية ومتحكمة في الأسرة بشكل واضح، الأب هو الذي يصنع الدمى، وكان يحلم بأن يصبح أهم حارس مرمى في العالم، لكننا نرى أنه لم يحقق حلمه على الإطلاق. هنا نتساءل، إذا كان أفراد الأسرة على قيد الحياة فما الفائدة في إعادة تمثيلهم باستخدام الدمى؟
تستغل أسماء هذه الدمى استعادة الفترة الزمنية التي تريد تناولها، إحدى ليالي رمضان، ليلة القَدر كما تعتقد المخرجة في تعليقها، ومن خلال استعادة التفاصيل الشكلية لهذه الليلة، فإنها تدفع أفراد أسرتها على استعادة ذكرياتهم وما حدث حينها. المفارقة الممتعة في الفيلم هي أن البيت والدمى بألونها وتفاصيلها تدفعنا للشعور بحالة من الألفة والود في البداية، وكأننا سنشاهد قصة رومانسية، لكن بمرور دقائق قليلة داخل أحداث الفيلم نكتشف أن هذه القشرة الخارجية الجميلة إنما تشبه الأسرة نفسها، إذ تبدو من الخارج جميلة بينما في داخلها الكثير من الأسرار الشائكة.
الحوائط تخفي أسرارًا
تختار أسماء لحظات دقيقة جدًا للتوقف عندها، وتفعل هذا بذكاء حتى تداعب ذكريات أسرتها وتدفع أفرادها للإفراج عما في صدورهم. اللحظة التي تود التوقف عندها هي مصرع شابة في منطقتهم أثناء إطلاق النار في تلك الفترة، ورغم فداحة الواقعة فإن أسرتها -وربما سكان المنطقة عمومًا- يحاولون تجاهل الأمر، وكأنه لم يقع.
من هنا تعتمد المخرجة على فكرة الكذب لتنطلق في فيلمها، إذ للجميع أسرار يخفونها، تبدأ ببعض التفاصيل الصغيرة الخاصة جدًا بذكرياتها الشخصية عن هذا اليوم، ماذا كانت تلبس، وكيف التقطت صورتها، إلى آخره من هذه الأمور، ومن ثم تنطلق إلى أمور أكبر، تنفجر تدريجيًا داخل الأحداث. بعضها شديد القسوة، مثل ما يذكره قريبها الذي تعرض للاعتقال، وأخرى أقل قسوة وإن كانت أكثر شاعرية وتحمل حزنًا أكبر في طياتها مثل ما رواه أباها. يذكر الأب الذي كان عاشقًا لكرة القدم، أن المكان الذي اعتادوا على اللعب فيه أزيل بالكامل أثناء تلك المرحلة، وتحول لاحقًا إلى مقابر.
هذا المشهد تحديدًا يلخص الكثير من عناصر الفيلم، إذ نشاهد تجسيدًا بصريًا باستخدام الدمى والمجسمات للملعب ثم للمقابر، كما نستمع إلى الأب الذي يخرج أخيرًا ما يكنه في صدره، ربما لا يمكن أن نعد هذه الذكرى سرًا في حد ذاتها، لكن هذا التحول لساحة اللعب إلى ساحة للموتى يختزل ما حملته هذه الفترة البشعة، ويمنحنا أيضًا نظرة قريبة عن التحول الذي أصاب الذي لم تنتهِ حياتهم آنذاك، إذ لا تعني نجاتهم من الرصاص أنهم عاشوا حياة سعيدة!
فيلم كذب أبيض هو تجربة مميزة في كيفية تقديم فيلم وثائقي بتناول مختلف، وإن كان هناك بعض الإطالة في فصله الثاني، الذي استهلك وقتًا طويلًا لحين الوصول للكشوفات الأخيرة، فإن هذا لم ينتقص كثيرًا من تميز هذ العمل.