اعتزال مايكل كين.. فتى الستينيات الهاديء وأيقونة السينما البريطانية يستريح!
سار الفنان البريطاني السير "مايكل كين" بقامته الطويلة النحيفة، وملامحه المُسنة اللطيفة، في إحدى المطارات، ولقى استقبالا باشًا من الموظفين ورجال الأمن؛ فهو أسطورة فنية عالمية تمشي على الأرض، واطلع موظف الجوازات على جواز سفره، وتبدلت ابتسامته بتعبيرات شُرطية صارمة، ويُحدق في ملامح "كين" بريبة وتشكك، ويسأله: "من هو (موريس جوزيف مايكلوايت)؟"، ويؤكد "كين" أنه اسمه الحقيقي، المُسجل في شهادة ميلاده يوم 14 مارس عام 1933، ولكن الضابط يطلب منه الخروج من الصف، ويصحبه إلى مكتب الأمن للتحقق من شخصيته.
اعتزال في التسعين!
في بداياته أطلق على نفسه اسم "مايكل سكوت"، ثم غيره إلى "مايكل كين"، واستوحاه من شخصية بطل فيلم بعنوان The Caine Mutiny "تمرد كين"، بطولة "همفري بوجارت"؛ أحد الممثلين المُفضلين لدى "كين". دفعته تلك الوقائع المُتكررة في المطارات إلى تغيير اسمه في الوثائق الرسمية عام 2016 وعمره وقتها 83 عامًا، وأصبح اسمه "مايكل كين" في كل الوثائق الرسمية.
صرح "مايكل كين" قبل عامين عن نيته اعتزال التمثيل، وأوحت تصريحاته أن فيلمه "The best sellers" "الأعلى مبيعًا" هو أخر أعماله، ويحكي الفيلم قصة كاتب عجوز مُتقاعد غريب الأطوار، يعود للكتابة مُرغَمًا، بعد ضغوط ناشرة استغلت عقد قديم بينهما، وعلى أرض الواقع استمر "كين" يُمثل خلال العامين الماضيين، دون ضغوط من أحد، وقبل أيام أعلن مرة أخرى نيته اعتزال التمثيل نهائيًا، وفيلمه الأخير "الهارب العظيم" "The Great Escaper" هو أخر فيلم يُمثله في قائمة تضم حوالي فيلمًا؛ لأنه لم يعد قادرًا على الحركة بسهولة.
يبدو أن أيقونة التمثيل البريطانية السير "مايكل كين" سيعتزل فعلًا؛ فقد بلغ عمره تسعين عامًا ولم يعد الوقوف أمام الكاميرا سهلًا كما في الماضي؛ يتحرك الآن مُستعينًا بعصا، ويؤدي المشهد مرة واحدة ثم يجلس مُرهقًا، ولا مجال لإعادة المشهد مرة أخرى.
الرجل الذي رفض جيمس بوند!
اعتزال السير "مايكل كين" لا يعني توقف نشاطه تمامًا؛ فهو مولع مثلًا بالكتابة، وله عدد من الكتب التي نشرها على مدار حياته؛ يروي فيها سيرته الذاتية، وتفاصيل من واقع تجاربه في عالم السينما في بريطانيا وهوليوود، وفي ديسمبر القادم سيوقع أول رواية له؛ تصدر تحت عنوان Deadly Game "لعبة مُميتة"، وهي من نوعية التشويق والإثارة، وتحكي عن مؤامرة دولية وتهديد نووي، وبطلها شخص لا يعبأ بالقوانين والمحظورات، ولكنه قادر على التعامل مع الأزمات الحساسة والمواقف المحفوفة بالخطر، وتبدو حبكتها قريبة لأجواء مُغامرات "جيمس بوند".
رفض "كين" أداء شخصية جيمس بوند عام 1967، وذلك بعد اكتفاء "شون كونري" بأداء الشخصية في خمسة أفلام، ووقتها كانت أفلام "كين" مثل "زولو" Zulu 1964 و"ملف أيبكرس" The Ipcress File 1965، و Alfie "ألفي" 1966 قد وضعته على قمة النجومية والعالمية، وترشيحه لأداء شخصية العميل البريطاني منطقيًا، ولكنه لم ير نفسه في شخصية جيمس بوند، وعلى حد تصريحه لصحيفة The Daily Express كان يرى أنه تقليدي للغاية على العكس من شخصية 007، وفي الواقع كان مُقربًا لأهم ممثلين جسدا شخصية جيمس بوند على الشاشة، وهما "شون كونري" و"روجر مور".
أوسكار لكل العُقود!
مسيرة "كين" تقارب ستين عامًا، وقد بدأ بأدوار صغيرة في بعض الأفلام والمسرحيات في بداية حقبة الخمسينيات، وبدأ صعود نجمه في منتصف الخمسينيات، وتألق في حقبة الستينيات، وكان جليًا أن الممثل الوسيم، صاحب الملامح الجادة، والنظرة الثاقبة، والشعر الأشقر هو ممثل من نوعية فريدة؛ فهو قادر على تقديم أداء متنوع، وتجسيد شخصيات وأدوار مُختلفة، وهو يتنقل بين الأدوار الرومانسية والكوميدية والحركة والميلودراما ببراعة ودون مجهود، وتلقى الترشيح الأول للأوسكار عام 1967 عن دوره في فيلم "ألفي"، وهو شاب مُستهتر يستغل النساء، ويعيش لملذاته، وأحيانًا يكسر الحائط الرابع ويحاول تبرير سلوكه الشرير للمُشاهد.
حافظ "كين" على مستوى جيد لاختياراته الفنية عمومًا، وظل اسمه يرتبط بأعمال قيمة سينمائيًا، حتى الأعمال الخفيفة التي شارك فيها كانت لطيفة؛ وليس مُدهشًا أنه كان يحصل على ترشيح للأوسكار مرة تقريبًا في كل عقد، والمرة الأخيرة التي ترشح فيها للأوسكار كانت عام 2003 عن دوره في فيلم "الأمريكي الهاديء" The Quiet American المأخوذ عن رواية كتبها "جراهام جرين"، وجسد فيها دور مراسل بريطاني يقع في غرام شابة فيتنامية، وينافسه في حُبها شاب أمريكي "براندون فريزر".
حصل "كين" على الأوسكار الأول عن دوره المُساعد في فيلم "هانا وأخواتها" "Hannah and Her Sisters" 1986، من تأليف وإخراج "وودي آلان"، وهو دراما كوميدية عن تعقيدات الحب والخيانة في عالم ثلاث شقيقات، ووقت حفل الأوسكار كان "كين" يُصور فيلم مُتواضع بعنوان "انتقام الفك المُفترس" Jaws: The Revenge.""، وبصعوبة تمكن من حضور الحفل واستلام جائزته، وفي العام التالي فاز عن دوره في "انتقام الفك المُفترس" بجائزة التوتة الذهبية لأسوأ أداء، ولم يندهش لذلك؛ فقد صرح مرة إنه لم يُشاهد الفيلم أبدًا، ويعلم أنه سيء للغاية.
وهج لا ينطفأ!
شهدت حِقْبَة الثمانينيات بعض أفضل أعماله، ومنها دور الأستاذ الجامعي السكير الذي تطلب منه مُصففة شعر شابة مُساعدتها لإكمال تعليمها، والفيلم بعنوان "تعليم ريتا" "Educating Rita"، وصور فيه تحولات شخصية رجل جامعي فقد شغفه بالحياة، وتأثير شخصية امرأة تحمل روحًا مُنطلقة عليه.
في عام 1999 حصل على الأوسكار الثاني لأفضل دور مُساعد، عن أداء شخصية د.ويلبر لارش في الفيلم الدرامي "قوانين منزل سيدر" "The Cider House Rules."، والفيلم عن هوميروس اليتيم، الذي نشأ في ملجأ، ونقل له طبيب المُنشأة خبراته في الطب والحياة، ويتوق هوميروس لتجربة الحياة خارج الملجأ.
عِلاقة "كين" مع التمثيل ظلت مُتوهجة حتى حينما نزل عن أدوار البطولة المُطلقة، وهو أحد الشخصيات الرئيسية التي ظهرت في عدد كبير من أفلام المخرج "كريستوفر نولان"، وأبرزها ثلاثية باتمان The Dark Knight، وجسد فيها شخصية ألفريد وينتورث خادم (بروس وين/باتمان) وكاتم أسراره، وظهر في أعمال أخرى لنولان، منها "استهلال" "Inception"، و"بين النجوم" Interstellar ، و"دنكيرك" "Dunkirk"، و"عقيدة" "Tenet".
فيلمه الأخير "الهارب العظيم" يُعرض يوم 6 أكتوبر القادم، وهو مأخوذ عن قصة حقيقية عن عجوز بريطاني مريض، وبطل حرب سابق يختفي من دار تمريض ورعاية، ويسافر إلى فرنسا للمُشاركة في الاحتفال بالذكرى رَقْم 70 لإنزال النورماندي في الحرب العالمية الثانية، والفيلم مأخوذ عن وقائع حقيقية بطلها "برنارد جوردان" الذي هرب وسافر إلى فرنسا، وكان عمره 89 عامًا.
ربما توقف "مايكل كين" عن التمثيل وجلس يستريح، وخلفه مسيرة طويلة مُستقرة، وإرثًا هائلًا يقارب من 175 فيلمًا؛ بعضها من روائع الأفلام العالمية، ونجح في صياغة شخصية فنية تحمل ملامح بريطانية هادئة أصيلة.
الصور من حساب مايكل كين الرسمي على انستجرام