مسلسل "Moonlighting".. ضوء القمر الذي غير حياة بروس ويليس!
لم يكن التمثيل هدفًا يسعى إليه المراهق الشاب "بروس ويليس"، كان مُنطويًا وخجولًا، ويتلعثم كُلما تكلم، ظن أنه مُعاقًا ولن يتمكن من التكلم بصورة طبيعية أبدًا، وبدأ زملائه بالمدرسة الثانوية يتنمرون به؛ أطلقوا عليه لقب "بَك بَك"، وهو ينطقون الاسم بأداء صوتي يُحاكي صوت نقنقة الدجاج. أحب الشاب المُتلعثم التمثيل، والتحق بفرقة التمثيل بالمدرسة، وهناك وجد وسيلة للتخلص من خجله وتحسين نُطقه، وقف على خشبة المسرح ونطق جملة حواره المكتوب بصوت عالِ، وخرجت الكلمات من حنجرته أقل تلعثمًا، ونطق جملة ثانية وثالثة، وكانت النتيجة مُبهرة؛ وجد نفسه يتكلم بشكل أفضل، وأجبر ألآخرين على الانصات إليه دون سخرية، وتخلص بشكل تدريجي من عِلة التلعثم.
ضوء القمر وبدايات النُجومية!
بدأ حلم دخول عالم هوليوود الساحر يُداعب خيال "بروس ويليس"، وبعد تخرجه عمل حارس أمن، ولفترة قصيرة التحق بقسم الدراما في جامعة ولاية مونتكلير بولاية نيوجيرسي الأمريكية، ولم يستمر بها طويلًا، وانضم لاحقًا إلى بعض فصول تعلم التمثيل.
في بداية الثمانينيات سعى للحصول على فرصة الوقوف أمام الكاميرا، وحصل على أدوار كومبارس في بضعة أفلام ومسلسلات، وبعد خمس سنوات من المشاركات البسيطة والهامشية في أعمال درامية مُتوسطة تقدم لاختبار أداء دور هام في أحد المسلسلات، وشعر أن فرصته ضعيفة؛ إذ كان يواجه حوالي ألفي مُتقدم لأداء شخصية المُحقق الخاص ديفيد أديسون جونيور، ولم تُوافق قناة ABC على منحه الدور، وبدأ جدل بين مؤلف المسلسل، وهو كاتب السيناريو الأمريكي "جلين غوردون كارون" وبين مُديري الإنتاج بالقناة؛ فقد كان يرى "بروس ويليس" الأنسب للدور كما تخيله وكتبه، وضغط كثيرًا حتى وافقت ABC على منحه الدور.
وقف "بروس ويليس" أمام الكاميرات لتجسيد شخصية ديفيد المُحقق الخاص شديد الذكاء في مسلسل الكوميديا والرومانسية "Moonlighting" "ضوء القمر" وكان أمامه مهمة صعبة لإثبات قدراته الفنية، فهو لن يواجه جَمهور مدرسته الثانوية المحدود، بل جَمهور المسلسل في أمريكا والعالم، عليه منح دوره الجاذبية والأداء الذكي المرح، عليه كسب محبة المُشاهدين، حتى هؤلاء الذين أطلقوا عليه يومًا لقب "بَك بَك".
آه من حواء!
عام 1985 بدأ عرض مسلسل "ضوء القمر" على قناة ABC وقدم الشاب خفيف الظل "بروس ويليس" بطلًا للمرة الأولى، ووقفت أمامه "سيبيل شيبيرد"، وهي عارضة أزياء وممثلة جنت بعض الشهرة في السبعينيات، وأبرز أدوارها في السينما تجسيد شخصية المُتدربة في حملة انتخابات الرئاسة في فيلم المخرج "مارتن سكورسيزي" "Taxi Driver" "سائق التاكسي" وكانت أغلب مشاهدها أمام "روبرت دي نيرو".
أضاء "ضوء القمر" سماء الدراما في منتصف الثمانينيات، ولمعت نجومية الممثل المغمور "بروس ويليس"، وقدم واحد من أنجح أدواره، وصنع تلك البصمة التي ميزته لاحقًا، وهو تلوين الشخصية التي يؤديها بلمحات كوميدية ساخرة. لم تكن شخصية المُحقق ديفيد صارمة أو جادة تمامًا، وكان عيون البطل تلمع بالضحك المكتوم في المشاهد المُختلفة، هو مُحقق شديد الذكاء يُحاول انقاد وكالته المُتعثرة ماليًا، ويُشارك الموديل السابقة مادي "سيبيل شيبيرد" مكتب تحقيقات خاصة يحمل اسم "ضوء القمر"، وهو اسم براند خاص بمادي.
هي امرأة مُفلسة سرقها مُحاسبها وليس لديها إلا علاقات جيدة بشخصيات ثرية ومرموقة، وتُساهم بعلاقاتها في رواج أعمال المكتب الجديد، ولكنها إلى علاج علاقتها المُتوترة دائمًا بشريكها.
استلهم "جلين غوردون كارون" فكرة عِلاقة ديفيد ومادي من مسرحية "ترويض النمرة" "The Taming of the Shrew" للكاتب الإنجليزي "ويليام شكسبير"، بعد أن شاهده معالجة بأداء "ميريل ستريب" و"راؤول جوليا" في الثمانينيات، ونفس المسرحية قُدمت بمُعالجات عدّة في أعمال درامية في العديد من اللغات؛ منها مثلًا المُعالجة المصرية التي كتبها "محمد أبو يُوسُف" في فيلم "آه من حواء" بطولة "لُبنى عبد العزيز" و"رشدي أباظة" واخراج "فطين عبد الوهاب"، وعلاقة ديفيد ومادي تسير على نفس النسق الشكسبيري الساخر؛ تنافر وانجذاب بين شخصين؛ امرأة حسناء مُتغطرسة، ورجل ذكي يُحاول ترويض سلوكها العدائي.
قالب درامي جديد!
المسلسل مزيج من الدراما والكوميديا، وينتمي إلى تصنيف Comedy drama وهو من الأعمال المُبكرة التي بلورت هذا النوع من الأعمال الدرامية؛ إذ يمزج بصورة ذكية بين الدراما الجادة والكوميديا؛ فلا يُمكن اعتباره سيت كوم هزلي، ولا يُمكن تصنيفه عملًا دراميًا بحتًا. كتابة المسلسل ابداعية بشكل كبير، وتتجاوز الشكل التقليدي؛ وكسرت مثلًا الحائط الرابع، وتوقف الممثلون أحيانًا للتعليق على المشهد أو السخرية من حدث ما، وفي بعض الأحيان يُشارك أشخاص من الاستوديو أو إدارة الإنتاج في حوارات حول المسلسل في المشهد الافتتاحي للحلقة، وفي الحلقة الأخيرة مشهد جدل ديفيد ومادي مع منتجي المسلسل حول قرار إلغاء العمل، بينما يقوم العُمال في الخلفية بتفكيك الديكور.
استمر عرض المسلسل خمسة مواسم ما بين عامي 1985 و1989، وفي هذه السنوات بلغت شهرة "بروس ويليس" القمة، وبدأت السينما ترى فيه نجم المستقبل، وخلال سنوات عرض المسلسل قدم عدد من الأفلام التي عززت نجوميته على شاشة السينما؛ أبرزها فيلم "الموت الصعب" "Die Hard" وهو الفيلم الذي وضعه على قمة قائمة نجوم أفلام الأكشن في التسعينيات، واستمرت مدّة صعوده خلال التسعينيات وبدايات الألفية الثالثة، وخلال السنوات الأخيرة بدأ يظهر ضيف شرف أفلام متوسطة المستوى، أغلبها مصنوع للفيديو وتصويره مشاهده لا يتجاوز يومين، وكان أدائه خافتًا، وحوار مشاهده قليل، وأصبح اسمه يتكرر ضمن قوائم الفائزين بجائزة التوتة الذهبية لأسوأ أداء.
الصمت الصعب!
في تلك المرحلة لم يكن "ويليس" يُدرك ما يفعله تمامًا في الاستوديو، كان ينسى جمل الحُوَار أمام الكاميرا، ويتم تلقينه إياها بواسطة سماعات الأذن، وكان يُطلب من كتاب السيناريو تقليص حواره ومشاهده، وتقليل زمن التصوير إلى يوم واحد، وفي النهاية أعلنت أسرته في بيان صحفي خبر مرضه بالخرف الجبهي الصدغي (FTD) العام الماضي، ومن أعراض المرض فقدان مهارات الكلام والتواصل، وكان البيان إعلان اعتزال واحد من أهم نجوم هوليوود.
اعتاد "جلين غوردون كارون" زيارة صديقه المُمثل المُعتزل "بروس ويليس" مرة واحدة كل شهر، يتعرف "ويليس" على صديق البدايات الأولى، ويبدو سعيدًا بوجوده لعدة دقائق، ثم تذبل ابتسامته ويفقد اهتمامه، ويغرق في حالة صمت طويلة، ويستمر "جلين" في الحديث معه من طرف واحد.
أبلغ "جلين" صديقه أن منصة Hulu الشهيرة بدأت منذ العاشر من أكتوبر الجاري بث نسخة مُنقحة فائقة الجودة من حَلْقات مسلسله Moonlighting "ضوء القمر"، ربما فهم "بروس ويليس" الخبر، وشعر بالسعادة وهو يشاهد نسخة شابة منه تتحدث وتتحرك وتبث البهجة والحيوية على شاشة التليفزيون، قد يعلم أن ملايين المعجبين حول العالم يُشاهدون أعماله المُعاد عرضها ويسعدون بها، ويتعاطفون مع أزمته الصحية ويتمنون له الشفاء، في الأغلب أدرك كل ذلك وأسعده، وأعاقه المرض على التعبير عن مشاعره بالكلام.
الصور من صفحة المعجبين على انستجرام.