مارتن سكورسيزي.. ذكرى ميلاد رجل عصابات نيويورك الطيب!
اليوم الذكرى رَقْم 81 لميلاد "مارتن سكورسيزي" (17 نوفمبر عام 1942)، هذا المُبدع الذي لا زال في جعبته مزيد من الحماس للفن والحياة، وفيلمه الأخير "قتلة زهرة القمر" "Killers of the Flower Moon" هو أحد أهم أعماله الفنية، وتناول حكاية مُعقدة ظاهرها جرائم قتل غامضة، في أرض تقطنها قبيلة الأوساج الأمريكية في بدايات القرن العشرين، وفي عُمقها حكايات قاتمة عن الشر والُعنصرية والأطماع. المُدهش أن "سكورسيزي" صاحب القائمة الطويلة من الأفلام البديعة فكر جديًا في اعتزال السينما في منتصف السبعينيات.
دي نيرو والرفقة الطيبة!
أذكر زيارته مكتبة الإسكندرية يوم 23 ديسمبر عام 2009، وكان عمره يومها 67 عامًا وأسابيع قليلة، عجوز قصير القامة يسير بخُطوات سريعة إلى المسرح، ويومها أدار مدير المكتبة وقتها "إسماعيل سراج الدين" معه حوارًا شيقًا عن السينما والحياة، وعن سكورسيزي نفسه.
حرصت على الجلوس في كُرْسِي أمامي قريب من خشبة المسرح، حيث كان يجلس ويتحدث بسرعة وعفوية، ويستخدم يديه كثيرًا؛ مثل أغلب أبناء شعوب البحر المتوسط. هو حَكّاء حاضر البديهة والنكتة، وبدا صغير الحجم وهو يقف على خشبة مسرح مكتبة الإسكندرية الكبير؛ كأنه نسخة مرحة من بطل فيلم الأنيميشن "فوق" "Up" كارل فريدريكسون (فريد زين في النسخة العربية)، البطل العجوز الغاضب، صاحب الحواجب الكثيفة، والنظارات الكبيرة، والقامة القصيرة، والشعر الأبيض، ربما ذهب خيالي إلى هذه الصورة الكاريكاتورية لأن فيلم "Up" عُرض قبل شهور قليلة من زيارة "سكورسيزي"، وربما لأن ملامحه كاريكاتورية فعلًا.
لم يكن "سكورسيزي" كهلًا مُتبرمًا يُعاني الوحدة، مثل كارل فريدرسكون؛ فلديه رفقة طيبة من الأصدقاء والزملاء والجمهور المُحب لأعماله، وبعض زملاء الصبا والشباب والتسكع في شوارع نيويورك أصبحوا شركاء حلمه السينمائي لاحقًا؛ "روبرت دي نيرو" مثلًا كان أحد فتية الحي الذي يعيش فيه "سكورسيزي"، ولم يكونا أصدقاء بالمعنى؛ فقد كان "دي نيرو" واحد من شله فتيان أقوياء، ويصعب على فتى مريض بالربو مثل "سكورسيزي" مرافقة هذا النوع من الفتيان، لكن "دي نيرو" أصبح صديقه لاحقًا، وأصبح مُقربًا حتى لأمه التي تعدّ "دي نيرو" ابنها الثاني.
الفتى الإيطالي المريض!
"سكورسيزي" أمريكي من عائلة مُهاجرة من جزيرة صقلية الإيطالية، وُلد يوم في نيويورك، ونشأ في حي "كوينز" النيويوركي، في قلب منطقة يقطنها كثير من المُهاجرين الإيطاليين والأيرلنديين. تأثر بتدين والديه الكاثوليكيين، وعاش في أجواء تحتفظ بالعادات والتقاليد الإيطالية. حكاياته أغلبها عن ناس عرفهم عن قُرب؛ العائلة والجيران ورجال الدين.
كان ينتقل مثل لاعب جمباز رشيق بين تفاصيل حياته اليومية كصبي مريض بالربو، ومراهق نيويوركي يرتاد السينما كثيرًا؛ لأن ضعف بنيته حرمه من ممارسة الرياضة، وموضوعات وأفكار أفلامه التي تحكي واقع وتاريخ نيويورك، وصداقاته لشخصيات تأثر بها في حي إيطالي الثقافة والعادات تصادف أنه يقع في وَسْط نيويورك.
في طفولته شعر بقرب شديد نحو التدين، وألحقه والديه وهو في عمر 14 عامًا بالمدرسة الكاثوليكية، ولكنه فُصل منها بعد عام؛ بسبب جموحه وعدم التزامه بالقواعد، ولكن ذلك لا يعني أبعد فكرة التدين من حياته؛ فهناك داخله مساحة روحانية تُناقض المساحة التي تحتشد بالشخصيات الشقية والعُنف من حيه الحافل بالتناقضات؛ وعبرت أفلامه عن هذا التناقض؛ فهو حَكّاء أرخ سينمائيًا لأجواء عصابات نيويورك، وأزمات شخصيات نيويوركية تصعد لعنان سماء الشهرة والثراء، وتهوي على أرض الواقع، وهو نفسه الذي فكر في اعتزال السينما الروائية بعد فيلمه الثالث "Mean Streets"، والتفرغ لصناعة أفلام تسجيلية عن أشهر القديسين في إيطاليا.
أزمات الشك واليقين!
علاقته بالدين حاضرة في أعمال مثل "الإغراء الأخير للسيد المسيح" The Last Temptation of Christ، و"صمت" Silence، فيهما البطل يتعرض البطل إلى اختبار قاسي، قد يُفقده إيمانه؛ الشيطان وهو يُحاول غَوَاية المسيح في لحظة حاسمة، ورجل دين مسيحي فقد ايمانه في فيلم "صمت"، وهو فيلم يدور في اليابان في القرن السابع عشر، وفي هذا الوقت تعرض المسيحيين للاضطهاد والتعذيب.
قرأ "سكورسيزي" رواية "صمت" في نهاية السبعينيات، وتأثر بها كثيرًا؛ فقد أهداها له قس وقت تعافيه في المستشفي، وعبرت بشكل ما عن فُقدانه بوصلته في الحياة؛ إذ حاصره الاكتئاب والإحباط والشعور أنه لن يستطيع تقديم المزيد للسينما، وبدأ تعاطي المخدرات، ولم يتحمل جسده الواهن ذلك وتوقف قلبه تقريبًا، وأنقذه فريق أطباء المستشفى في اللحظات الأخيرة.
داخل أبطال أفلامه شخصيات تشبهه، حظيت بأوقات التألق، وعانت الانطفاء، وأزمات الشك والهوية والوجود؛ تحتوي أفلام مثل "الثور الهائج"، و"الإغراء الأخير للسيد المسيح"، و"رفقة طيبة"، و"عصر البراءة"، و"عصابات نيويورك" "Gangs of New York"، و"الطيار" "The Aviator"، و"ذئب وول ستريت" ""The Wolf of Wall Street، وغيرها على تنويعات على نفس الأفكار والأزمات التي صنعت من أفلامه أعمال عظيمة وأصيلة.
تعقيدات النفس البشرية!
أبطال أفلامه شخصيات تُعاني ارتباك وتشوش وأزمات حياتية تدفعها إلى سلوكيات عنيفة أحيانًا؛ بطل الحرب العائد من فييتنام ليواجه الفشل والتجاهل في "سائق التاكسي" "Taxi Driver"، والملاكم الصاعد من قاع الفقر إلى قمة النجاح، وتُدمره أنانيته وتعقيداته النفسية في "الثور الهائج" "Raging Bull"، والمليونير المهووس بصناعة الطيران وانتاج الأفلام في "الطيار" وهو شخص طموح يُخفي تعقيدات نفسية مؤلمة، وغيرها من الحكايات التي تدور حول بطل في أزمة، تتغلغل أحزانه وإحباطاته داخله حتى تكاد تُدمره.
أغلب قصص أفلام "سكورسيزي" من وحي سير شخصيات حقيقية؛ الملاكم "جيك لاموتا" في "الثور الهائج"، والمنتج "هاوارد هيوز" في "الطيار"، وشخصيات فيلم "الأيرلندي" "The Irishman"، وعصابات نيويورك في القرن التاسع عشر.
حصل "سكورسيزي" على أول أوسكار في تاريخه عام 2007، عن اخراجه فيلم "المُغادر" "The Departed"، وهو الأوسكار الوحيد الذي حصل عليه حتى الآن، وهو أمر ملفت في مسيرة واحد من أبرع مخرجي هوليوود المعاصرين.
نقل "سكورسيزي" إلى الشاشة حكايات قرأها وسمعها وعاش تفاصيل مُشابهة لتفاصيل شخصياتها، وهو يحكيها على الشاشة كما كان يحكي لجمهور مكتبة الإسكندرية عن نُزق رفاق الحي الذي نشأ فيه، وطعام أمه الذي يُفضله "روبرت دي نيرو"، ورجال عصابات الحي القساة، يحكي كل هذا بنبرة قوية وجادة مُبطنة بالسخرية.
الصور من حساب صفحة للمعجبين بمارتن سكورسيزي على تويتر