خاص "هي" مهرجان برلين السينمائي 2024- فيلم "المطبخ"..كيف تضع أمريكا بأكملها داخل مطعم؟
يعود المخرج المكسيكي ألونزو رويزبلاسيوس للمشاركة في مهرجانه المفضل، برليناله، الذي لم يشارك فيه من قبل إلا وعاد بجائزة، منذ فيلمه الطويل الأول في 2014 "Güeros" (جيد) والذي حصل على جائزة أفضل عمل أول وحتى 2021 عندما فاز فيلمه الوثائقي "A Cop Movie" (فيلم بوليسي) بجائزة أفضل إسهام فني عن المونتاج.
في فيلمه الأحدث الذي يشارك في مسابقة المهرجان "La Cocina" (المطبخ) يخرج من المكسيك، لينتقل إلى الولايات المتحدة، وتحديدًا ولاية نيويورك الشهيرة والمثيرة للكثير من السينمائيين، ولهذا الاختيار ما يبرره داخل الفيلم. تدور أحداث الفيلم في يوم واحد، وفي مكان واحد -باستثناء مشاهد قليلة- داخل مطعم "ذا غريل" الذي يقع في ميدان تايمز ذائع الصيت. يقدم رويزبلاسيوس معالجة لنص مسرحي بنفس الاسم للإنجليزي أرنولد ويسكِر، ويحاول من خلال هذا المطعم وتحديدًا مطبخه المزدحم أن يقدم نظرة ليس فقط على ما يحدث في هذا المكان الذي لا نشاهده عادة عندما نطلب طعامنا، ولكن على الولايات المتحدة كلها.
يقسم الفيلم فريق العمل داخل هذا المطعم إلى فريقين أساسيتين، الطباخين والنادلات، بينهما هناك فريق ثالث نشاهد منه ثلاثة أفراد فقط، ولكنهم ذوي سلطة أكبر، وهو فريق الإدارة المتحكمة في كل ما يخص بقية الموظفين.
فعليًا خرج المخرج من المكسيك، لكنه لا يزال يتابع المكسيكيين المهاجرين حتى عندما نقل مسرح أحداثه إلى نيويورك، لكنه يوسع من دائرة اهتمامه هذه المرة إذ يحاول أن يتناول المهاجرين إلى أمريكا بشكل عام من جنسيات مختلفة، فالمطبخ يضم طباخًا مكسيكيًا وأخرى مغربية، والكثير من الطباخين من دول مختلفة. سريعًا سندرك أن هذا المطبخ ليس تقليديًا، لكنه يمثل نسخة مصغرة من ما يحدث في الولايات المتحدة، أحلام الكثيرين بالحصول على الجنسية والإقامة هناك، وطموحهم ليتحولوا إلى أمريكيين بغض النظر عن أصلهم، وهذه المهم ليست سهلة، فالأمر لا يعتمد على الأوراق فقط، بل على اعتراف الأمريكيين أساسًا بك وسطهم، وهو ما نشاهده من خلال الطباخ الأمريكي الذي يتعامل بتعالي مع بقية زملائه، وصاحب المطعم الذي يعد طباخيه وعودًا زائفة بتقنين أوضاعهم.
يختار رويزبلاسيوس الأبيض والأسود ليكونا اللونين الأساسيين في فيلمه، وهو الاختيار الذي له ما يبرره دراميًا بشكل واضح، إذ في غياب الألوان، يصعب تمييز لون بشرة الأشخاص، وبالتالي تحقق المساواة ولو لونيًا، ويصبح تفاخر الأمريكي في الفيلم بكونه "أبيض" أمرًا بلا معنى، إمعانًا في السخرية من هذه الميزة التي بلا قيمة في حقيقة الأمر.
إذ يتميز المخرج بقدرته على صناعة أجواء مشوقة، فإنه لا يبتعد عن هذا في "المطبخ" إذ يبدأ الفيلم بواقعة سرقة حدثت في المطعم، ويحاول المدير أن يصل إلى السارق قبل نهاية اليوم، وبالتأكيد يقع البطلين الرئيسيين بيدرو الطباخ المكسيكي (راؤول براينويز) وجوليا النادلة الأمريكية (روني مارا) داخل دائرة الاتهام، في الوقت الذي ينشغلان فيه بعلاقتهما العاطفية الهشة. ولا يتوقف التشويق عند هذه الأحداث بل نشاهد في الفيلم تتابعًا ممتعًا يستخدم فيه المخرج لقطات طويلة لرحلة الطلبات داخل المطعم منذ أن يطلب الزبون طعامه وحتى يصله الطلب، وهو تتابع كان من أمتع ما يمكن مشاهدته في هذا الفيلم، وذكرنا بالفيلم المميز "Boiling Point" (نقطة غليان) للمخرج فيليب باراتيني، والذي كان مصورًا بالكامل من لقطة واحدة داخل كواليس أحد المطاعم.
إلى هنا يبدو الفيلم ممتعًا ومشوقًا وذو فكرة واضحة، ولكن بقدر ما كانت هذه الفكرة الواضحة شيقة وتناولها ذكي، كانت أيضًا مفروضة بشكل أكبر من اللازم على المشاهد، وكأن المخرج لا يثق في ذكاء من أمام الشاشة، هكذا نجد أن الحوار يحاول التأكيد مرارًا وتكرارًا على فكرة الفيلم بشكل مباشر جدًا، حد أن يصرخ بيدرو أكثر من مرة "أمريكا ليست دولة"، أو أن يحاول حشد المزيد من المشاهد التي تبرهن على قسوة الحياة وصعوبة ما يسمى بالحلم الأمريكي من خلال الصراع بين بيدرو وإحدى النادلات. بينما يقدم الفيلم شخصية الطباخة الشابة إيستيلا (آنا دياز) لتصبح بمثابة من يتسلم الراية من الطباخين السابقين، وتأخذ دورها في مفرمة هذا العالم.
قد تكون هذه المباشرة، التي وصلت ذروتها مع تتابع النهاية الذي كان أضعف مشاهد الفيلم، انتقصت نسبيًا من هذا العمل الذي يحقق الكثير من التميز على مستويات أخرى.