خاص "هي"- الدورة 74 لمهرجان برلين السينمائي.. نهاية محبطة لتلك المرحلة
من قبل بدء الدورة 74 لمهرجان برلين السينمائي الدولي العريق، الذي يعد واحدًا من أهم المهرجانات السينمائية على الإطلاق، وهناك الكثير من القلاقل حول مصير هذه النسخة، إذ أُعلن أنها ستكون الأخيرة تحت الإدارة الفنية للإيطالي كارلو شاتريان، الذي تسلم المهرجان في ظروف تبدو جيدة، ليبدأ مع دورة استثنائية هي السبعين عام 2020، قبل أن يصطدم سريعًا بالأزمات، التي بدأت مع جائحة الكورونا والاضطرار لإقامة دورة عبر الإنترنت عام 2021، ثم دورة نصف فعلية مع احترازات شديدة الصعوبة في العام التالي، قبل أن يعود إلى وضعه الطبيعي في استقبال الضيوف في القاعات بداية من العام الماضي.
لم تكن تلك الأزمة الوحيدة إذ تأثر المهرجان أيضًا بالظروف الاقتصادية الأخيرة نتيجة الحرب في أوكرانيا، واتجهوا إلى تقليل عدد الأفلام المشاركة في هذه الدورة إلى 200 فيلم تقريبًا بعد أن كانت تقترب من 300 فيلمًا، بالإضافة إلى حذف أو دمج بعض أقسام المهرجان.
نظريًا يبدو أن شاتريان جاء في توقيت غير مناسب لقيادة المهرجان العريق، ظروف صعبة لم يكن مسؤولًا عنها، ولكنه في النهاية مسؤول عن اختياراته للأفلام ولجان التحكيم، مع بقية فريقه بالتأكيد. من خلال هذه الدورة الأخيرة وجوائزها التي أعلنت بالأمس يمكن إلقاء نظرة شاملة على ما قدمه خلال الخمس سنوات التي أدار فيها البريلناله.
مسابقة دون أسماء براقة
كرم المهرجان هذا العام المخرج الأمريكي الكبير مارتن سكورسيزي، ومن عند هذا الاسم تحديدًا يمكن فهم كيفية تراجع مستوى اختيارات المهرجان خلال السنوات السابقة. نظرة سريعة على مسابقة هذا العام، سنجد أنها تخلو من الأسماء الجذابة التي تحفل بها المهرجانات الأخرى، فسكورسيزي نفسه، كان آخر فيلم عرض له في مهرجان برلين هو "Shutter Island" (جزيرة شاتر) وذلك في عام 2010، منذ حينها قدم المخرج البارز خمسة أفلام لم يعرض أيًا منها في برليناله.
باستثناء بعض أسماء ظلت وفية لهذا المهرجان، مثل الكوري الجنوبي هونغ سانغ سو، والألماني كرستيان بيتزولد، وقائمة قليلة جدًا، يمكن أن نجد أن المخرجين الأبرز في السنوات الأخيرة صاروا يختارون مهرجانات كان وفينيسيا وتورنتو لعرض أفلامهم، بينما صار برليلناله منصة لتقديم مخرجين آخرين، لديهم بالتأكيد أعمال مميزة، لكنهم ليسوا بأهمية أو شهرة الأسماء التي تعرض في المهرجانات سالفة الذكر.
هذا الأمر ينطبق بوضوح على هذه الدورة الأحدث، فكالعادة كان هونغ سانغ سو حاضرًا في المسابقة، بجانب بعض أسماء حققت نجاحات من خلال المهرجان نفسه خلال سنوات سابقة مثل المكسيكي ألونزو لويسبلاسيوس والألماني أندرياس دريسين.
إذا نظرنا إلى الاكتشافات الأخرى، والأسماء الجديدة التي قدمها المهرجان، فسنجد عملين أولين طويلين في المسابقة، وبينما كان أحدهما مميزًا بشكل واضح وهو التونسي "ماء العين" (Who Do I Belong To) لمريم جعبر، فإن الآخر هو "Gloria" (غلوريا) إخراج مارغريتا فيكاريا، ربما يحقق نجاحًا كبيرًا مع الجماهير، ولكن هذا لا يعني ليس الأفضل فنيًا، وربما كان مكانه الأفضل خارج المسابقة. من بين 20 فيلمًا في مسابقة هذا العام، خمسة أو ستة أفلام فقط التي يمكن المناقشة حولها بشكل حقيقي وإعادة مشاهدتها مرة أخرى، أي حوالي ربع المسابقة!
جوائز تحاول إبداء التوازن
ترأست لجنة التحكيم هذا العام الممثلة المكسيكية ذات الأصول الكينية لوبيتا نيونغو. هذا الاختيار هو استمرار واضح للاتجاه للأسماء التي صنعت شهرتها في هوليوود لرئاسة لجنة التحكيم. العام الماضي كانت كرستين ستيوارت هي رئيسة اللجنة، بينما في العام الذي قبله ترأسها المخرج الهندي الأمريكي م. نايت شايامالان. بجانب كونها أسماء هوليوودية كما ذكرنا فإن هناك عامل مشترك آخر، وهو قلة الأعمال المميزة التي تستحق معها قيادة لجنة التحكيم، وإن كانت ستيوارت تحاول طوال الوقت من خلال المشاركة في أعمال لمخرجين مهمين، فإن أدوار نيونغو التي تستحق التقدير لا تتعدى أصابع اليد الواحدة، وشايامالان نفد رصيد إبداعه منذ سنوات طويلة، وبالتالي فإن اختيارهم لرئاسة لجان التحكيم، كان أمرًا غريبًا بالنسبة لمهرجان بهذا الحجم.
لكن لجنة نيونغو حاولت أن تقدم الجوائز بشكل متزن قدر الإمكان. ذهبت جائزة الدب الذهبي لفيلم "Dahmoey" (داهومي) إخراج ماتي ديوب، وهو العام الثاني على التوالي الذي يذهب فيه الدب الذهبي إلى فيلم وثائقي بعد منحها لنيكولا فليبير العام عن فيلمه "On the Adamant" (على قارب أدامانت). لا يمكن الجدال كثيرًا مع هذا الاختيار، ففيلم ماتي ديوب من أكثر الأعمال التي لفتت الانتباه في المسابقة، سواء على مستوى اختيار مزج الفانتازيا عن طريق اختلاق حوار بين قطع الآثار التي ستعود من فرنسا إلى بنين، أو من خلال موضوع الفيلم نفسه الذي يتناول الاستعمار والاستقلال من زاوية مختلفة عن المألوف.
بينما ذهبت جائزة لجنة التحكيم الكبرى إلى هونغ سانغ سو، وهو أمر متوقع، إذ من النادر أن يعود المخرج الكوري المميز من هذا المهرجان دون جوائز. فيلمه الأحداث "A Traveler's Need" (احتياجات مسافرة) ربما كان مميزًا على مستوى التمثيل من قبل المخضرمة إيزابيل أوبير، أو السيناريو نسبيًا، ولكنه بالتأكيد ليس ثاني أفضل أفلام المسابقة، وليس من أفضل أفلامه هو شخصيًا.
حصل فيلم "The Empire" (الإمبراطورية) إخراج برونو دومون على جائزة لجنة التحكيم، وهو من الأفلام الأكثر إثارة للخلاف في المهرجان، بينما رآه بعض النقاد شديد التميز، اعتبره آخرون فيلمًا مراهقًا دون قضية حقيقية يتابعها. قد يكون هذا هو أحد أكثر الأفلام المسلية في المسابقة، لا يعد بالكثير، لكنه يحتوي على كوميديا قوية، وسخرية واضحة من نوع أفلام الخيال العلمي الأمريكية، وسخرية غير واضحة من القيادات التي تدفع بأتباعها إلى الحروب دون سبب واضح.
والآن نصل إلى أغرب جائزتين في المهرجان، وهما جائزتا أفضل أداء في دور رئيسي وذهبت لسيباستيان ستان عن دوره في "A Different Man" (رجل مختلف)، وفي دور ثانوي وذهبت لإيميلي واتسون عن دورها في "Small Things Like These" (أشياء صغيرة مثل هذه). الاختلاف حول النتائج أمر يحدث بالطبع، ولكن ما يزيد غرابة اختيارات الجائزة كون رئيسة اللجنة ممثلة بالأساس، وكون الممثل الرئيسي ليس الأفضل أداءً حتى في فيلمه! بينما قدمت واتسون أداءً شديد التقليدية للشخصية القوية المتحكمة، دون تميز يذكر. هكذا تجاهلت اللجنة أداءات أكثر قوة بشكل واضح في أفلام "My Favorite Cake" (كعكتي المفضلة)، و"Sons" أو "Vogter" باللغة الأصلية (أبناء أو حارس).
ذهبت جائزة الإخراج لنيلسون كارلوس دي لوس سانتوس آرياس عن فيلم "Pepe" وربما كان هذا تقديرًا لمجهوده الكبير في التعامل مع الحيوانات والطبيعة، وتطويع الكثير من الأفكار والشخصيات داخل فيلمه، وإن كان الفيلم نفسه ليس من الأفلام البارزة في المسابقة. بينما اكتفت لجنة التحكيم بجائزة السيناريو لفيلم "Dying" (الموت) الذي يمكن أن نعده من ضمن أفضل ثلاثة أفلام في المسابقة، وهو الفيلم الذي كان بالتأكيد يصلح لجائزة الدب الذهبي، وإن كانت جائزة السيناريو تليق به، إذ قدم بعض المشاكل العائلية التي تبدو تقليدية في معالجة غير تقليدية على الإطلاق.
كانت آخر الجوائز هي جائزة الإسهام الفني، وربما كانت أكثر جائزة متوقعة، فقد ذهبت لمارتن جشلاخت عن التصوير السينمائي في فيلم "The Devil's Bath" (حمام الشيطان)، وإن كان التصوير في فيلم "ماء العين" منافسًا قويًا على هذه الجائزة، ولكنه خرج دون أية جائزة.
هكذا أسدل الستار على هذه الدورة وهذه الحقبة من مهرجان برلين، وفي انتظار تريشيا تاتل التي ستدير المهرجان بداية من الدورة القادمة، علها ترجع إليه هالته السابقة.