من سي السيد إلى "بابا جه".. سُلطة الأبُ الغائبة في كوميديا عائلية عن النضج والمسؤولية!
في عام 1964 قدمت السينما المصرية شخصية أيقونية للأب المصري، في فيلم (بين القصرين)؛ جسد فيه "يحي شاهين" دور الأبُ الصارم، الذي يفرض سلطته الأبوية والزوجية على أفراد أسرته؛ فهو يتحمل مسئولية المنزل كاملة، ولا مراجعة أوامره، أو خروج زوجته إلى الشارع. هذه الملامح الدرامية لأب من حِقْبَة أربعينيات القرن الماضي، كما كتبها "نجيب محفوظ" في روايته، وأخرجها "حسن الإمام" في فيلمه الشهير.
بعد 60 عامًا من الفيلم ظهر الأبُ في مسلسل الكوميديا الاجتماعية (بابا جه) غير ناضج، عاطل يعتمد على زوجته في الإنفاق عليه، لا تجد ابنته الصغيرة وجودها ضروريًا في المنزل؛ إنها تقف أمام زملائها ومُعلميها وتُعلن للجميع تبرعها به لمن يريد؛ لأنه يتنصل من كل التزاماته الأبوية، ولا يعيرها انتباهًا.
أبُ للإيجار!
مسلسل (بابا جه) من الأعمال الكوميدية المُلفتة للنظر في الموسم الرمضاني هذا العام، بطولة "أكرم حسني"، كتابة "وائل حمدي" و"محمد اسماعيل أمين"، إخراج "خالد مرعي". من الصعب أن يجذب مُسلسل كوميدي المُشاهد، وَسْط مجموعة كبيرة من الأعمال الدرامية المُتنوعة، الأصعب هو تقديم كوميديا من خارج صندوق أفكار ونكات المسلسلات الكوميدية العشوائية، التي انتشرت خلال السنوات الماضية، وأغلبها اعتمد على التهريج المُطلق؛ حلقات بلا دراما مُتماسكة؛ إعادة تدوير نكات السوشيال ميديا، وأداء ثقيل الظل.
أزمة كل من صنع هذا النوع المفتعل من الكوميديا، هي ظنه أن هذا العبث ذوق الجمهور، وهو ظن يصل إلى درجة الإثم؛ فالجمهور لن يضحك على نُكتة بايخة تتكرر.
قدم "أكرم حسني" في رمضان، قبل عامين مسلسل بعنوان (مكتوب عليا)؛ وهو كوميديا اجتماعية خيالية؛ عن شخص يستيقظ كل يوم، ومكتوب على جبينه أحداث يومه، قبل وُقوعها. مع وجود بعض المشاكل في الكتابة قدم المسلسل كوميديا مقبولة، وحاول "أكرم حسني" الخروج من سيرك الكوميديا النمطية، الذي نصبه بعض نجوم مسرح مصر وغيرهم، وتقديم عمل اجتماعي، يعتمد على كوميديا الموقف، ويتفاعل فيه مع شخصيات، بعضها مكتوب بشكل جيد.
النُضج والمسئولية!
تجرِبة "أكرم حسني" في مسلسل (بابا جه) أكثر نضجًا من (مكتوب عليا)؛ وهي استمرار ناجح لمُحاولات إعادة الكوميديا إلى مسارها الطبيعي؛ أن تكون عمل درامي قائم على عناصر رئيسة؛ فكرة جذابة، ونص مكتوب بشكل جيد، وشخصيات يتفاعل معها المُشاهد، ودراما تتعامل مع حكايات الواقع بصورة ساخرة.
تنشأ الكوميديا من موقف تراجيدي؛ فالأب هشام "أكرم حسني" عاطل من العمل؛ فقد وظيفته في مجال السياحة، بعد جائحة كورونا، وظل سنوات في المنزل، يعتمد على مُرتب زوجته ولاء "نسرين أمين"، الموظفة الصارمة، التي تعمل في مدرسة خاصة.
شخصية هشام هزلية وغير ناضجة؛ فهو يقضي يومه في اللهو، ويُنفق المال بلا حساب، وتنصل من كل مسئولياته كرب أسرة، حتى ابنته الوحيدة جودي "لافينيا نادر"، لم يعد يهتم بها، وخذلها كثيرًا. في حفل بمدرسة الابنة، يتبرع التلاميذ بأشياء غير ضرورية من منزلهم، وتتبرع جودي بوالدها، ويتمسك زميلها زياد بتملك هذا الأبُ؛ فهو يريده لنفسه؛ لإنه يعيش بلا أبُ.
الموقف المُهين للأب يدفعه للتفكير في قيمته كأب ورب أسرة، ولكن الظروف المادية القاسية تدفعه إلى تحويل هذه المصادفة إلى مهنة، وكلما حاول التملص منها، دفعته ظروف مادية أسوأ إلى العودة مرة أخرى كأب للإيجار، ومن خلال الحكايات الفرعية يبدأ الأبُ في اكتشاف قدرته على حل مشكلات الآخرين، أو دفعهم إلى مواجهتها.
تمصير كوري!
المسلسل تمصير لفكرة رواية كورية كتبتها "هونج بو يونج"، بعنوان "أبُ للإيجار" "Dad for Rent"، اقتبست عام 2013 في فيلم حمل نفس العنوان، إخراج "كيم ديوك سو"، واقتبس المسلسل المصري العناصر الرئيسة للعمل الكوري، وأضاف إليها حكايات محلية تلامس تفاصيل من واقع المجتمع المصري؛ فالبطل الذي أخفق في علاقته بابنته وزوجته يتعرض لحالات مُختلفة من العلاقات العائلية الفاشلة؛ الأبُ الغائب عن أسرته، والزوج الذي لا يُقدر زوجته، والعائلة التي تُهمل أبنائها وتتركهم فريسة للإدمان أو صداقات السوء، وغيرها من الحكايات التي تدفعه إلى مُحاولة إعادة النظر في أزمته الشخصية، وخلال مُحاولته التعامل مع أزمته المادية بشكل أساسي، يكتشف أنه يفتقر إلى النضج، ويتصرف أحيانًا مثل الأطفال.
لم يستهلك المسلسل الفكرة في افيهات عبثية، وكان أغلبها عن التصرفات الخرقاء لأب غير ناضج، أو في العَلاقة الثُنائية المرحة بينه وبين مساعده الأحمق ياسر "محمد أوتاكا"، أو زوج الأخت الحقود "ياسر الطوبجي"، وحافظت "نسرين أمين" على أداء شخصية "سي سيد" العمل؛ فهي المُوظفة الصارمة، والزوجة الجادة، التي يخشاها زوجها.
أبناء وأباء!
قدم "أكرم حسني" شخصية هشام بوجهين؛ أحدهما ساخر ومثير للضحك، والآخر جاد ويعاني أثر سلوكياته غير الناضجة؛ ولهذا نرى عملًا دراميا يحاول تقديم فكرة لها ملامح إنسانية بصورة كوميدية، وهذا يُعبر عن وعي صُناع العمل لقيمة الدراما داخل العمل الكوميدي، كما يؤكد قُدرة "أكرم حسني" على تقديم أدوار جادة.
يضم المسلسل مجموعة من الأطفال والمراهقين؛ بعضهم ظهر في الحكايات الفرعية، ولكن جاء أداء الطفلة الموهوبة "لافينيا نادر" لدور الابنة عفويًا ومرحًا، فهي واحدة من أبطال العمل، وتنبع أهمية دورها في المسلسل من أنها الشخصية التي دفعت البطل إلى تجرِبة غيرت حياته؛ فتصرها الصادم غير حياة أبيها، ولاحقًا تساعده في إخفاء حقيقة مهنته الجديدة عن الأم، في مقابل تحقيق بعض الطلبات التي تُشعرها بالأبوة، والأمر الساخر أن هذا الابتزاز يفتح باب مواقف مُضحكة؛ فالأم تراقب تصرفات زوجها الغامضة بشك وريبة، والابنة لا تشي به؛ مقابل أن يمارس أبوته.
بالتأكيد لا يصور (بين القصرين) أو (بابا جه) صورة الأبُ السائدة في زمن كل عمل، ولكنه يُشير بصورة ما إلى اختلاف العصور وملامح المجتمع وشخصياته بين حقبتين؛ في الأولى سلطة الأبُ مُطلقة وقاهرة، وفي الثانية نُتابع أبُ يبحث عن دوره الحقيقي، ويُحاول تعلم كيفية تحمل مسئولياته كرب أسرة.
الصور من حساب أكرم حسني على فيس بوك.