السينما والحب في زمن الـChat GPT.. هل أصبح فيلم Her واقعًا؟
تبادل الشاب الحديث مع المُساعدة الذكية على الهاتف الجوال؛ بدأت تحكي له حكاية مُسلية تساعده على النوم، تلون صوتها بطبقات صوتية تُلائم الحكاية الدرامية؛ ذهب عنه الأرق، وطلب منها أن تُغني، وأجابت طلبه بصوت رقيق مُتناغم، أصبح الحِوار بينهما أكثر حيوية، تبادلا المزاح والضحك، أغدق عليها بكلمات المُجاملة، ردت بصوت مُبتهج خجول وشكرته على مُجاملته.
ما سبق ليس أحد مشاهد الفيلم الأمريكي Her (هي) وإن كان يشبهه كثيرًا؛ الحِوار السابق جزء من العرض التسويقي لبرنامج الذكاء الصناعي الجديد GPT-4o وهو خطوة ثورية نحو تفاعل طبيعي بين الإنسان والآلة، يتحدث الذكاء الصناعي بصوت شبه بشري واستجابته للحوار طبيعية للغاية، يُمكن مقاطعته والمزاح معه، يتفاعل بسرعة قريبة لسرعة وعفوية البشر، يندهش ويُغني ويشعر بالحرج ويتفاعل مع النكات الذكية ويضحك ويتفهم تلون مشاعر البشر ويستجيب إلى كل حوار حسب حالة مُحدثه.
شطحات خيال!
يذكر من شاهد فيلم (هي) أوقات أرق تيودور "يواكين فينكس"؛ الذي يُعاني الوحدة بعد طلاقه واكتشافه تطبيق ذكاء صناعي شديد الذكاء يستطيع التحدث معه، بدأت حواراته الطويلة مع صوت الذكاء الصناعي سامانثا "سكارليت جوهانسون"؛ الروبوت الذكي، وحديثها يُحاكي البشر بصورة مُتقنة، هي قادرة على فهم واستيعاب شخصية تيودور، دون تخطيط مُسبق يقع تيودور في غرام سامانثا.
وقت صدور فيلم (هي) في ديسمبر عام 2013 وصلت نظريات الذكاء الصناعي إلى مستوى مُتقدم فعلًا، ولم يُصدق أحد قدرة الروبوتات على مُحاكاة التفاعل البشري كما فعلت سامانثا في الفيلم. السيناريو الذي كتبه مُخرج الفيلم "سبايك جونز" بدا شطحة خيال فني، مُجرد فكرة درامية خيالية تهدف إلى تصوير حال الإنسان في المستقبل القريب، إذ تتعاظم مشاعر الاغتراب والتباعد الاجتماعي في زمن التكنولوجيا.
عمل تيودور في شركة تتخصص في كتابة الرسائل نيابة عن الآخرين، وأبدي هو براعة فائقة في عمله، لديه قدرة عبقرية على تقمص الآخرين وكتابة رسائل مُفعمة بالعواطف وهو قادر على التعبير عن الآخرين بمُفردات وأساليب تُعبر عنهم. لم يحتج عمله سوى بعض المعلومات عن تاريخ صاحب الرسالة والمُرسل إليه؛ والنتيجة رسالة مؤثرة وعاطفية.
التناقض بين مهنة تيودور وحالته الشخصية هو بَذرة الصراع الميلودرامي اللاحق بين مشاعره البشرية والمشاعر الرقمية للروبوت الصوتي سامانثا، شعر تيودور أن الذكاء الصناعي يُقدم له ما ينقصه، كما يفعل هو مع الآخرين، ولكنه لم يُقدر المدى الذي يُمكن أن تصل إليه الآلة من توحش وتعقيد، هذا الخطأ الفادح سبب له جرحًا إضافياً؛ اكتشف إنه يُحاكي مشاعر حب مُزيف، يشبه ما يُقدمه في رسائله التي يكتبها نيابة عن الآخرين، المشاعر التي يخلقها مُصطنعة ومُزيفة، لا شيء أكثر أصالة من المشاعر الحقيقية بين البشر.
قبل سامانثا!
اهتمام السينما بالروبوتات التي تُحاكي البشر قديم، يعود الأمر إلى بدايات السينما نفسها؛ فالدراما على الشاشة تصور مشاعر تمثيلية مصنوعة بحرفية من قبل المُمثلين. في الفيلم الألماني الصامت "Metropolis" عام 1927، صنع عَالِم مجنون روبوت على هيئة حبيبته الراحلة، تم تصوير الروبوتات في الفيلم على أنها كائنات بدائية جافة، ذات جسد معدني مصقول وبارد، خالية من المشاعر، ولكن الأمر تطور في الدراما بشكل كبير لاحقًا.
على عكس روبوت فيلم (متروبوليس) المعدني الجامد تشكلت راشيل "شين يونج" على هيئة فتاة جميلة في فيلم "Blade Runner" عام 1982، هي الروبوت الأهم في حياة عالم الروبوتات الشهير في لوس أنجلوس د.إلدون تايرل، يتحدى الرجل مُحقق الشرطة ريك ديكر "هاريسون فورد" أن يُجرب وسائله للتفرقة بين البشر والروبوتات على مُساعدته راشيل، هي لا تعلم أنها روبوت، وهو لا يعلم أنه سيقع في غرام هذا الروبوت الأُنثوي شديد التطور، هو الضابط المُكلف بتعقب وتدمير الروبوتات بعد تمرد بعضهم على عبودية البشر، وضلوع روبوتات أخرى في عمليات تخريب وقتل للبشر.
الفيلم يُقدم مستوى متعدد من المشاعر والحكايات عن الهُوِيّة والوعي للروبوتات الذكية، ويتساءل في طياته حول مشروعية وأخلاقية تدمير كائنات صناعية تم تغذيتها بالصفات والمشاعر البشرية، الكثير من روبوتات الفيلم ليست مؤذية وتهرب طوال الوقت من مُطاردة الشرطة المحمومة، لن يمر وقت طويل حتى يبدأ المشاهد في تجرِبة مشاعر غريبة؛ إذا يتعاطف مع الروبوتات ويكره البشر!
الروبوت والهوية!
في عام 2014 صور فيلم "Ex Machina" العَلاقة المُعقدة بين البشر والآلات، واستلهم الأسطورة اليونانية عن النحات البارع "بيجماليون" الذي يقع في غرام تمثال امرأة بديع صنعه، ويدعو أن يتجسد حيًا، وتتحقق أمنيته، وفي الفيلم يُكلف المُبرمج كيلب سميث "دومينهول جليسن" بمهمة اختيار عواطف واستجابات الروبوت إيفا "أليسيا فاكندر"، ويتجاوز الأمر الوقوع في غرامها، إنه يشاركها خُطَّة الهروب من منزل ومعمل ناثان "أوسكار إيزاك"، صانع إيفا ومجموعة من الروبوتات غريب الأطوار.
يتطور الأمر بصورة مُفزعة في مسلسل (عالم الغرب) "Westworld"، إنتاج عام 2016، ويأخذ الأمر أبعادًا فلسفية في عَلاقة البشر بروبوتات متنزه (عالم الغرب)، وداخل المتنزه مجموعة من الروبوتات الشديدة الشبه بالبشر، تحمل داخلها وعي وذكريات وعواطف بشرية، وتشبه البشر جسديًا، من الداخل والخارج، يعيشون في قرية تشبه قرى رعاة البقر القدامى، في حين يأتي البشر الأثرياء يلهون بمُطاردة الروبوتات التي تظن ما يحدث هجومًا وحشيًا من رعاة بقر أشرار.
في (عالم الغرب) مُباح للبشر فعل أي شيء بهذه الكائنات دون خوف من ردة فعلهم أو عقاب من أحد؛ هذا الإسقاط يكشف قيمة الأخلاقيات والردع الذي يمنع البشر من مُعاملة بعضهم البعض بنفس الأساليب الوحشية في العالم الواقعي.
تقنيات الذكاء الصناعي الحديثة جعلت تزييف الصور والفيديوهات مُتقنة بصورة مُخيفة، أصبح بالإمكان حاليًا أن يتحدث الشخص في اتصال مرئي، ويستخدم صورة "توم كروز" كأفاتار خاص به أو صورة شخص أخر. الأزمة تكمن في الاستخدام الخبيث لهذه التقنيات، وتزييف الأحداث والوقائع.
بعد هذه التحديثات المُتطورة لن يكون هينًا التفرقة بين مكالمة تأتيك من شخص بشري أو دُعابة يقوم بها روبوت صناعي، وعلى مستوى آخر ستشهد السينما أزمة خيال من نوع آخر؛ فقد تحقق خيال كتاب القصص والسيناريو، وعليهم بذل مجهود أكبر لاستشراف المستقبل الغامض القادم.
الصور من حسابات الأفلام على السوشيال ميديا ولقطات من إعلانات الأفلام.