خاص "هي": حفل كاظم الساهر بمصر.. بطولة مطلقة للحنين!
لم يعد يشبه اليوم البارحة بأي حال، لكن كاظم الساهر يا للمفاجأة السارة لا يزال على المسرح كما هو، بعنفوان الشاب الثلاثيني رغم الشيب الذي خط رأسه، الفنان شديد الفخامة الذي تكاد جوارحه تتمزق وهو يتماهى مع الحالة التي يغنيها، المطرب الذي لا يدخر حنجرته وتتقطع أنفاسه مصرا على أن يعطي كل حرف حقه، شيء يشبه توتر وإخلاص البدايات وكأنه أول مرة يغني، كما يشبه الشعور بمسؤولية التحقق وكأنها حفلة تقاعده الأخيرة التي يريد لها أن تكون متكاملة ليعود بعدها ويستأنس بهواياته في صمت، تاركا إنجازاته على المسارح معبأة لمن يريد.. عودة كاظم الساهر للغناء بمصر حدث يبعث على السعادة رغم منغصات التنظيم!
أسوأ بضاعه يمكن أن يجلبها معه مستمع في حفل غنائي، يقام بمكان منعزل يتجاوز حدود القاهرة التي نعرفها، هي الحنين، حيث الساحة مهيأة لتواتر الذكريات التي يمكن أن تستفرد بصاحبها وتصيبه بكآبة حادة في ظرف غير ملائم أبدا ولا يعترف بالتاريخ النفسي لحاملي التذاكر.. هل التصفيق في هذا المقطع بالذات لكاظم الذي يقف أمامنا أم لنسخته القديمة، هل التماهي مع هذا اللحن يحدث فعلا أم نحن نعيد ونكرر حالة لطالما رافقت المستمعين قبل سنوات مضت، هل فعلا لا يزال يحافظ الأستاذ كاظم على بشاشته في التعامل مع الراغبين في الصعود والمصافحة والأحاديث الجانبية، في زمن الرعب من الجمهور والتوجس من المعجبين بات موضة رائجة؟!
لم يتوقف المصطفون عن استدعاء أحداث قديمة جرت كلها على هامش حفلات المطرب الذي يحتفل بألبومه "مع الحب" أخيرا في مصر، واستدعاء أيام كان الحزن فيها أخف وطأة والأجواء العامة أقل احتقانا والزوايا المحيطة لم تكن مشحونة بكل تلك الاختناقات ووسائل الاشتعال والاستقطاب، ماذا فعل الساهر إذن؟ بدد تلك السحابات الضبابية من أول لحظة، المؤسف أنها عادت سريعا ترفرف عقب أقل من ساعتين هي مدة غنائه، حينما بدأت الوفود في شق طريقها للخروج حيث تأخر قرار فتح البوابات حتى وصل التزاحم والتخبط الذروة، بالطبع لم تكن تلك الأزمة الوحيدة في السهرة التي كان يمكن أن تكون كاملة العدد لولا أزمات تنظيمية بدت واضحة للغاية، وكان يمكن أن تسعد عدد أكبر من المستحقين لولا طريقة تقسيم فئات التذاكر، وكان يمكن أيضا أن يمر طريق الوصول لها بشكل أكثر يسرا لولا اضطرابات تغيير المكان ثم الاستقرار على آخر في وقت قاتل، أو بمعنى أكثر واقعية ابتكار مسرح بديل على عجل في بقعة لم تكن موجودة على خرائط البحث حتى قبل أيام من موعد الأمسية، بل كان يمكن أن يتم الانتباه لأبسط التفاصيل والتعامل معها باحترافية كأن يختار المسؤولون عن الحدث تشغيل موسيقى تسبق صعود صاحب الحفل تخص أعماله هو باعتباره مؤلفا موسيقيا رفيعا ولكن بغرابة غير مفسرة على مدى أكثر من ساعتين صدحت الميكرفونات بمقتطفات لحنية لنجوم غيره!
من يمكنه أن يرتكب كل تلك الأخطاء دفعة واحدة في حفل فنان بحجم الساهر لم تستقبله المسارح المصرية منذ نحو عامين؟، وقبلها بقى حوالي 12 عاما بعيدا عن مسارح البلد الذي وصف ناسه بأنهم "أهله"، ورغم ما شاب اختيارات المنظمين من مشكلات لمسها الجمهور المخلص بمجرد عبور البوابة، إلا أنهم كسبوا الرهان لأنهم يعرفون يقينا أن الغفران سيأتي سريعا وأن هناك من يتقن فن تصحيح الأخطاء بموهبته التي لا تزال بكامل بهائها ولم تخنها الأيام، المشهد يبدو كما هو منذ أن كان اسم كاظم الساهر هو مكافأة الختام المفضلة للقائمين على حفلات التليفزيون المصري.. ذائقة الملابس هي ذاتها، مشاكسة الحضور بنفس الطريقة الودودة المرحة، وكأنه لم يتركهم يوما، الكرم الفني الاستثنائي وهو يدلل الشابة سهيلة بهجت ويعيد معها مقطع أغنية "الليل والشباك" ثلاث مرات ليعطيها فرصة أكبر لتثبت قدراتها وهي التي تحصل على هديتها أخيرا بعد سنوات من وعده لها في "ذا فويس كيدز".
غير أن التساؤلات لم تتوقف، لماذا مثلا لم يصعد المؤلف والموزع الموسيقى هشام نياز عازفا على البيانو ليعيد ذكرى لطالما كانت مميزة حينما رافق الساهر في أكثر من حفل سابق، وباعتباره من أكثر الموزعين توائما مع أعمال صاحب "حافية القدمين وشؤون صغيرة وتقولين الهوى ويا قلب"، ليكمل باقة عازفي الفرقة المهرة، وهل كان من العدل ألا يعيد كاظم الساهر أداء أغنية "بيانو" على المسرح؟
مرة واحدة لم تكن كافية، لم تتوقف الطلبات أبدا وبالطبع لم تكن تتسع لها مدة الحفل، حيث بدا الجمهور وكأنه يريد أن يتلقى تعويضا عن سنوات الغياب غير المفهوم عن إحياء الحفلات بمصر، مذكرا كاظم، بعشرات الأعمال التي أصدرها خلال تلك الفترة والتي من حقهم أن يستمعوا إليها مباشرة، طلب غير منطقي وغير قابل للتحقق، ولكنها طريقة العتاب التي تضمنتها حلقات النقاش الجانبية خلال الأمسية، حيث الحكايات التي توالت، عن لحظة تحقيق الحلم بحضور حفل لمطرب لطالما كان صديق لأيام المراهقة، ليكبر المراهقون في الوقت الذي يتخذ فيه الساهر قرارا بالابتعاد عن القاهرة ويستقر به المقام بعيدا، وحينما عاد قبل عامين نفذت فرص اللقاء سريعا حيث كان الحفل الأول بالساحل الشمالي والثاني محدود العدد، وقصص أخرى عن كيف دبر البعض ثمن التذكرة بصعوبة بالغة، وفريق ثالث كان أكثر حظا حيث يسافر وراء النجم من بلد لآخر ليستمتع بأداءه مباشرة..
الجميع اتفق أن الحفل انتهى سريعا وعلى حين غرة حتى تحولت أغنية "قولي أحبك" التي يختتم بها أمسياته الغنائية دوما إلى رمز للتعاسة كونها تعني قراره بالعودة مرة أخرى وراء الكواليس وترك الجمهور يصارع هواجسه التي عبر عنها أحدهم وهو يودع رفقاء الجلسة بأنه يتمنى أن يلتقيهم في حفل آخر قريبا، على أمل ألا ينتظر عامين كاملين حتى يطل عليهم القيصر مجددا في المحروسة.