لوحات أولمبياد باريس المُلونة والرقص تحت المطر والعواصف!
- خالفت اللوحات الفنية في حفل افتتاح أولمبياد باريس 2024 كثيرًا من التوقعات؛ فالمناسبة رياضية خالصة ولكن فلسفة ورمزيات الحفل ذهبت باتجاه الاحتفاء بالمشاركات من مُعظم دول العالم، وقدمت للجميع رسائل تتشابك مع قضايا الهُوِيّة والتنوع الثقافي. المؤكد أن فرنسا قدمت للعالم حفل افتتاح فني شديد الخصوصية؛ غامضًا وقاتمًا وعبثيًا ومُبهجًا، ويُمكن أن أضيف أنه كان فوضويًا أيضًا؛ فتصميم الحفل في الأماكن المفتوحة داخل نهر السين وعلى ضفافه لم يعمل حساب الأمطار الغزيرة التي أغرقت الموسيقيين والراقصين والمطربين وأعضاء الفرق الرياضية المُشاركة، ورغم ذلك فالمشهد الفني بجمالياته وعبثيته بدا مُتسقًا مع رؤية باريس للعالم بعيون مُعاصرة وحداثية؛ جريئة وصادمة بألوان وشخصيات لوحة حفل يرمز لأشياء كثيرة منها التنوع، ولوحة راقية كلاسيكية بصوت "سيلين ديون" بدت نقطة نهاية عاطفية ساحرة لحفل افتتاح ثري بصريًا ومُمطر مُناخيًا وعاصف رمزيًا.
رأس ماري أنطوانيت!
يجب فهم الأعمال الفنية في إطار ثقافة صانعيها؛ وهذا ما نراه في حفلات افتتاح المهرجانات الفنية الثقافية الكبيرة، والمُتابع لحفلات الأوسكار يُدرك كيف تحول هذا الحفل من مُجرد مراسم أنيقة لتوزيع جوائز لًصُناع الأفلام السينمائية كل عام إلى احتفالية تمزج بين الفن والصوابية السياسية.
قدمت فرنسا باستعراض ثقافتها الخاصة رؤيتها للتعايش الإنساني العالمي، والوجه الجديد للثقافة والحضاري بعيون فنية لخصتها لوحات فنية قد تكون صادمة لبعض المشاهدين، خاصة في مجتمعات ثقافية مُتحفظة، ولم أر تلك اللوحات تنظيرية أو تفرض ثقافات بعينها على الآخرين، بل تلقائية وتُعبر عن ثقافة مُتحررة واحتفالية ومُتصالحة مع صور ورمزيات جدلية حتى داخل فرنسا نفسها، يُمكن للمشاهد وصف بعض لوحات العرض بالفظاعة ولن يندهش "توماس جولي" مُخرج العرض؛ فهو يعي تمامًا أن اللوحات الفنية لن تعجب الجميع وهذا مفهوم تمامًا ويتسق مع فكرة التنوع والاختلاف.
صورت أحد اللوحات قطع رأس "ماري أنطوانيت" خلال الثورة الفرنسية بشكل فني جمالي أيقوني على الرغْم دموية الحدث، وكأن المصمم يرغب في تقديم اعتراف بغرض الخلاص والتكفير عن الذنب، وليس تمجيدًا للعنف، لم يكن المشهد سوى لوحة فنية سيغرق كثيرون في ثرثرة جدلية عن رمزياتها، وهي في حقيقتها أبسط مما يظنون.
دعوة صاخبة للاحتفال!
لوحة "Festivity" ـ احتفالية" تضمنت الاحتفاء بشخصيات ترمز لتنوع الهويات، تضمن العديد من المرجعيات الفنية؛ الجزء الأساسي من التصميم الحركي لشخصيات اللوحة يعود إلى حفلات ترفيهية قديمة تُدعى "Drag"، وهو مُصطلح شعبي يعني "السحب" (في الأغلب مأخوذ من سحب التنانير الطويلة على الأرض) وقد انتشر في حفلات الترفيه المسرحي خلال القرن التاسع عشر، وتعتمد هذه الحفلات على الملابس المُلونة الصاخبة الغريبة، وهي تبرز الأنوثة أو الذكورة بصورة مُفرطة وساخرة، وشخصيات هذه الاحتفاليات يطلق عليهن "ملكات السحب" وهذا لأن الرجال يرتدون أزياء أُنثوية والنساء ترتدين أزياء ذكورية، وهذا النوع من حفلات الأزياء يشبه مع الفارق طبعًا حفلات الأقنعة أو ما يُعرف بالحفلات التنكرية.
انتشر استخدام الفنون لهذا النوع من الأزياء والأداء المُبتذل بغرض الإضحاك في السينما بعد المسرح؛ قدمه مثلًا "إسماعيل يس" في العديد من الأفلام، أبرزها فيلم "الآنسة حنفي"، و"عبد المنعم إبراهيم" في فيلم "سكر هانم"، وكلا من "عادل إمام" و"سمير غانم" في فيلم "أذكياء لكن أغبياء"، وعلى العكس قدمت كلا من "سعاد حسني" و"نادية لُطفي" شخصيات ذكورية في الفيلم الكوميدي "للرجال فقط"، وفي هذه الأعمال وغيرها صور المُمثل الذكر الأنثى بصورة ساخرة نقدية مُثيرة للضحك.
الفن الرصين والاستفزاز!
هناك تشابه أيضًا بين ملامح لوحة "احتفالية" ولوحات فنية صورت حفلات صاخبة للآلهة الإغريقية الخيالية، تضمنت ارتداء ملابس غريبة ومُتناقضة؛ اللوحة صورت ظهور المغني "فيليب كاترين" بجسد أزرق شبه عارِ وَسْط وعاء فاكهة ضخم، يرمز إلى شخصية "ديونيسوس" في الأساطير الإغريقية، المرتبط النبيذ، أحد أهم عناصر الاقتصاد الفرنسي، وهو والد "سيكوانا" المعروفة قديما بإلهة نهر السين الفرنسي، واللوحة تصور احتفالا وثنيا رموزه آلهة الأوليمب، والإسقاط يجمع بين الإشارة الرمزية لفرنسا بلد الدورة الحالية، وفكرة التنوع والاحتفال الصاخب، ويُشير إلى الألعاب الأوليمبية القديمة التي كانت تعقد في أولمبيا، اليونان من القرن الثامن قبل الميلاد إلى القرن الرابع الميلادي.
الغرض من اللوحة الحركية تقديم المجتمع الإنساني العالمي المُتنوع بكل صوره في لقطة احتفالية، وبالطبع جاء استخدام الأزياء الغريبة والماكياج المفرط تأكيدًا لاختلاف هُوِيّة شخصيات المُجتمع المُعاصر إلى حد التناقض، ومثل كثير من لوحات الأداء الحركي التي تعتمد مرجعيات بصرية شكلية معروفة لدى الجُمهور هناك احتمالات كثيرة في وصول رسائل العمل الفني إلى الجُمهور بشكل مُلتبس ولكن الأمر المُؤكد أن اللوحة قدمت تصوره للتعايش بين الهُوِيّات المُختلفة بجرأة فنية تصل حد الاستفزاز وهو يعلم أن الأمر لن يكون مقبولًا للجميع، وقد يراه كثيرون فظيعًا ويراه آخرون مُبهجًا.
ما قدمه الحفل من فقرات فنية (حوالي 12 لوحة حركية) كان مُتناقضًا إلى حد بعيد؛ لذا لا يمكن أن يُعجب ذوقا فرديا تعود مجاملة صُناع الأعمال الفنية للمتفرج المُحافظ التقليدي، وظني أن ذلك كان مُتعمدًا، لتأكيد رؤية الثقافة الفرنسية تجاه التنوع عمومًا.
لا يوجد رابط بين اللوحات التاريخية الكلاسيكية الرفيعة التي قدمها الحفل ولوحة "احتفالية" المُفرطة في فظاعتها، ولا يمكن مقارنة "سيلين ديون" بطلتها الأنيقة وأدائها العاطفي لأغنية "إديث بياف" الرومانسية بغناء "فيليب كاترين" وطلته المُبتذلة، والابتذال هنا ليس وصفًا للتحقير؛ بل لتوضيح التناقض الكبير بين شكلين من الأداء الفني، لكل منهما معجبيه وجمهوره.
احتفاء الحفل فنيًا لم يُفرق بين الذوق الرفيع والجموح المُفرط، بين الرصانة والعبث، لم يتعمد إقصاء ذوق مُخالف لدعم فكرته الأصلية عن قَبول التنوع، وترك الأمر في النهاية لذوق الجُمهور.