فيلم "Joker: Folie à Deux".. ثنائية الشر والموسيقى... كيف أحيت هارلي كوين فوضى الجوكر؟
الجوكر أحد أشهر الشخصيات الأيقونية في تصوير الشر في السينما الأمريكية، ربما هو أصعب شخصية تعامل معها باتمان والسلطات في جوثام سيتي. شر الجوكر صادم ومُدهش، ولديه تلك الملكة في ممارسته بصورة استعراضية مُلفتة؛ ولهذا يسحب البُساط من تحت أقدام باتمان الذي يمثل الخير الذي يُحارب الجريمة، لديه كاريزما تجعل الشر مُثيرا للإعجاب على نحو ما، شخصية مُتمردة عبثية لا يُمكن التنبؤ بردود أفعالها، وسلوكياته عنيفة في أغلب الحالات، تظهر انتقام جنوني تجاه مُجتمع سيطرت عليه القسوة، ولهذا يتعاطف معه الضعفاء، فهو يقوم بواسطة انتقامه بالتنفيس نسبيًا عن غضبهم المكتوم.
جعلوني مُجرمًا!
حمل الجزء الثاني من نسخة "يواكين فينكس" والمخرج "تود فيليبس" عن الجوكر عنوان "Joker: Folie à Deux" (الجوكر: ثُنائي الجنون)، وهو عنوان يشير إلى دخول هارلي كوين إلى عالم الجوكر، حيث تلتقي به وهو مُحاصر بين السجن والجنون، وقد عاد إلى شخصيته الحقيقية، المُواطن آرثر فيلك المعروف باسم الجوكر، واحد من ضحايا مجتمع جوثام ستي، ينتظر مُحاكمته على غضبه وفوضويته ورد فعله الدموي.
في النسخ السينمائية الأقدم، قدم "سيزار روميرو" و"جاك نيكلسون" و"جاريت ليتو" و"هيث ليدجر" الشخصية بعفوية وعبث وشر جامح، دون التركيز على مناطق ضعفه وماضيه الذي صنع منه كائن مشوه نفسيًا ومُعتل اجتماعيا، غالبًا كان كل مُمثل يصنع جوكره الخاص، بتفاصيل جنونه وشره كما يتخيلها.
في الأعمال الأولى كانت شخصية الجوكر بسيطة في تصويرها للشر، ومُخلصة للجنون والعبث والتهور، حتى النسخة الأكثر دراماتيكية التي صنعها المخرج "كريستوفر نولان" في ثلاثية "باتمان" لم تفسد الحالة الشريرة الكوميكسية، وأبدع "هيث ليدجر" في تصوير الجوكر واثق الخُطا وجامحًا ولا يُبالي، وعلى العكس يظهر "يواكين فينكس" مريضًا مثيرًا للشفقة لا يُسيطر على غضبه، لقد انفجر عُنفًا لأنه نسي تناول دواءه مثلًا.
حينما أخرج "تود فيليبس" ملحمته عن الجوكر مع الممثل "يواكين فينكس" رغب في كشف المستور، وكشف الأبعاد الإنسانية العميقة التي تجاوزها الآخرون، قدم في نسخة عام 2019 بعنوان "Joker" (جوكر) ما يشبه السيرة الذاتية لشخصية الجوكر؛ لنعرف أنه لم يستيقظ من النوم وقد أصابته لَوثَة وأصبح يكره المجتمع والشرطة وباتمان؛ ما حدث له كان نتيجة سلسلة من المواقف الصادمة التي مر بها منذ طفولته وصهرت شخصيته الدموية الجامحة.
الواقع والخيال!
أجلس "تود فيلبس" الجوكر على كرسي الطبيب النفسي على الشاشة، وأقنعه بالحديث عن ماضيه وحاضره، نجح في صناعة نسخة سينمائية لها أبعاد إنسانية مُتعددة، تروي حكاية الجوكر من وجهة نظر الجوكر نفسه، ومن خلال مواقف تثير الشفقة والتعاطف؛ في النسخة التي حصل فيها "يواكين فينكس" أوسكار التمثيل عام 2019 نرى الجوكر الإنسان، المريض، المسحوق من مجتمع اكتسب شراسة مُخيفة ضد الآخرون، وقد حول هو القسوة إلى طاقة غضب كرد فعل مُتمرد وفوضوي على تشوه شخصيته وسلامه النفسي.
مزج الجوكر بين خياله والواقع، كان يعيش داخل فقاعة سحرية مُصطنعة، وكانت الموسيقى جزء من وسيلته لخلق عالم وهمي في خياله، وعلاج يساعده على الهدوء، على طريقة السفاح الذي يهدأ عنفه حينما يستمع إلى أغنية الأطفال "ماما زمانها جاية" في فيلم "سفاح النساء"، إخراج نيازي مصطفى وبطولة "فؤاد المهندس"، ولو صنعت السينما المصرية نسخة مستقلة عن هذا السفاح قد يكون فيلم غنائي يدور في عقل السفاح، وهذا ما صنعه المخرج "تود فيليبس" في الفصل الجديد من رواية شخصية الجوكر، الموسيقى هنا ليست بغرض الترفيه وإنما التعبير عن هلاوس شخصية تُعاني.
تهدئة يستعين بها لتحمل ضغوط وتنمر المجتمع، ويحدث الانفجار حينما يتحطم حاجز الخيال، ويُصبح عليه الرد على المجتمع بعُنف لا يتوقعه أحد، يصنع ذلك وهو يرقص ويغني ويضحك ضحكته شديدة الغرابة.
تدور أحداث الجزء الثاني داخل السجن، وقاعة المُحاكمة، والمصحة النفسية التي يُعالج فيها آرثر فليك "الجوكر"، لقد أصبح عدو مجتمع جوثام سيتي سجينًا، يُعاقب حسب القوانين التي تمرد عليها، مريضًا يسعى إلى لملمة جراحه بعد أن فقد شخصية الجوكر، يُحاول أن يجد حقيقته، هل هو مجرد مُجرم؟ أم مريض يحتاج العلاج، لقد فقد خياله وهيبته وتمرده، وأصبح كائن نكد يتسول السجائر من سجانيه.
الحب في الزنزانة!
في الجزء الجديد عثر الجوكر على رفقة أنثوية تُلائمه، هارلي كوين "ليدي جاجا"، فتاة جامحة مُعجبة بشخصية الجوكر، تُعالج في نفس المصحة التي يُعالج بها، تميل بشكل خاص إلى الجانب القاتم شديد العنف داخله، تُصاحبه وتُشجعه على إعادة إحياء عُنفه وتمرده، تُعيده إلى طريق الجموح، بعد أن استسلم تقريبًا لسيطرة المُجتمع ونظام السجن الصارم، وظن أن الجوكر مات وانتهت أحلامه، ولم يتبق منه إلا السجين والمريض غريب الأطوار.
لم يصل تحول شخصية هارلي كوين إلى الذروة في هذا الفيلم، وجاء دورها المُحفز لآرثر كوين ليعود إلى شخصية الجوكر بكل جموحها وعُنفها، وذلك يساير شخصيتها وميولها الفوضوية؛ هي قصة حب مضطربة تجمع بين الدموية والفوضى والموسيقى، كأنها طقس شيطاني يُمارس على مذبح الشر أكثر منها حب رومانسي لشخص آرثر فليك، تحب هارلي كوين في الجوكر رؤيته الفوضوية للعالم.
جزء من تركيبة شخصية الجوكر هو ميله للموسيقى والغناء، وربما هذا كان السبب في أن الجزء الثاني يقف تحت مظلة نوعية الفيلم الغنائي، وقد أحيت هارلي كوين داخله عالمه الذي تداعي عن طريق الموسيقى والغناء، كان هذا مُلهما للغاية بالنسبة إليه. فكرة الفيلم الغنائي تطوير فني جيد لجزء من شخصية الجوكر كما ظهرت في الفيلم الأول؛ كان الغناء دائمًا درعًا يختبأ خلفه من اعتداء المجتمع، وسيلة تبث داخله الراحة والأمل في تغير أحواله؛ الحلم في العدالة، والأمل في نيل الحب والتقدير، وقدم "تود فيليبس" هذه الحالة الغنائية بصورة بصرية وموسيقية جيدة، ربما لا تكون استثنائية، ولكنها مُعبرة.
الجوكر يُغني!
يعود الجوكر للغناء، بعد ان أحيت هارلي كوين الأمل داخله، وأعادت إليه شخصية الجوكر الذي ظن أنها ماتت مع دخوله السجن، وصنعت بصحبته ثنائي مجنون، تُزيد الأغاني من غرابة أطوار الشخصيات وغموضها، والفيلم ينتقل من الشخصية المتمردة الأناركية كما صورها يواكين فينكس، إلى ثنائية قصة حب دموية، دويتو يرقص على أنغام العنف والدمار وطرطشة الدماء.
قد لا تبد حالة الفيلم الغنائية مقبولة للمشاهد الذي انتظر مشاهد المزيد من الجزء الأول؛ فالجزء الجديد يصور مرحلة مُختلفة في مسيرة الجوكر، تتسق تمامًا مع شخصيته المُضطربة، الذي يجد أحيانًا السلوى والأمان في خياله المضطرب، وهلاوسه الغنائية المُلونة، وكلا الفيلمين أرضيتهما سيكولوجية، حتى لو كانت مشاهد العنف تلون الجزء الأول بمشاهد العُنف والأكشن، بينما الصورة الغنائية التي قدمها "تود فيليبس" مع "يواكين فينكس" منطقية ولا تبتعد عن عالم الجوكر الداخلي وهو هدف صناعة الفيلم بالأساس.
ربما يؤخذ على الأغنيات أنها أحيانًا تعيد حكاية ما شاهدناه في مشاهد سابقة، ولا تقدم تطور درامي جديد، هي ليست مضفورة تمامًا في النسيج الدرامي، ورغم ذلك هي مقبولة في إطار الشكل العام، والرؤية البصرية الثرية التي قدمها "تود فيليبس" وتظهر روح موسيقى الروك القاتمة، من حقب زمنية مُختلفة.
قدم "تود فيليبس" حالة بصرية غرائبية تُعبر عن توابع صدمة الجوكر؛ تحوله من كائن مُنطوي مذعور إلى شخصية ثورية فوضوية، ثم انتقاله إلى مرحلة السجن والعلاج النفسي ومرافعات المحكمة الطويلة، وجاءت الصورة الاستعراضية الملونة والأغاني لتصنع العالم المواز في عقل المريض السيكوباتي آرثر فليك.
لم يعجب التحول الذي أحدثه "تود فيليبس" في تناول شخصية الجوكر قطاع كبير من جَمهور الجوكر، وربما يُقلص هذا فرص تقديم أجزاء جديدة من الشخصية، وإن كنت أفضل أن يُكمل "تود فيليبس" روايته الكاملة للشخصية.
الصور من حساب الفيلم على موقع X "تويتر"