بين الصدق والافتعال: تنويعات تناقش صورة المرأة في مهرجان الجونة 2024

بين الصدق والافتعال: تنويعات تناقش صورة المرأة في مهرجان الجونة 2024

رامي المتولي
6 نوفمبر 2024

الرحلة كانت السمة العامة للأفلام المعروضة في مسابقات وأقسام مهرجان الجونة السينمائي في دورته السابعة، حيث ظهرت المسابقة الدولية، أكبر مسابقات المهرجان، بعدد من الأفلام التي تضمنت رحلة لأبطالها، إما لاكتشاف الذات أو لتحقيق هدف خاص جدًا. خلال هذه الرحلة، نعايش كمتفرجين أزمات الأبطال والعوائق التي تحد من أحلامهم وطموحاتهم، فنقف أمام تجارب إنسانية مدهشة، خيالية لكنها تعبر عن الواقع بكل أبعاده وفقًا للبيئة والموروث والعادات التي ينتمي إليها العمل، سواء التي داخلت منافسات الجوائز أو خارجها. أيضًا هناك أفلام، على العكس، لا تنتمي لواقعها على الإطلاق.

ل

بعيدًا عن حسابات الجوائز ومنحها، التي تتولاها لجان التحكيم المختلفة بتنوع رؤى أعضائها، يعد فيلم "الجميع يحب تودا" للمخرج المغربي نبيل عيوش نموذجًا للفيلم القادم من البيئة المغربية، الناطق بلسانها والمعبّر عنها بمنتهى الشاعرية والرفاهة والرهافة. زامله في منافسات نفس القسم الفيلم المصري "الفستان الأبيض" لمخرجته جيلان عوف في تجربتها الأولى كفيلم طويل، والتي تأتي على عكس ما قدمه نبيل عيوش تمامًا، حيث توجد بينهما مسافة كبيرة في الجودة الفنية. حيث انفصل "الفستان الأبيض" تمامًا عن الواقع المصري، ليبدو وكأنه يعبر عن واقع آخر ليس له علاقة بالبيئة المصرية أو عاداتها وتقاليدها. وهذا ما يضع الفيلمان على طرفي النقيض، والسبب ليس حداثة عهد مخرجته بصناعة الأفلام، بل أكثر بانعدام رؤيتها وغياب أدواتها كمخرجة في التعبير عن المأساة المزيفة في الفيلم، مما يجعله أقل أفلام العام جودة، سواء على مستوى المعروض في المهرجان أو بين الأفلام المصرية، بدعائه عمقًا في مناقشة مشكلة اجتماعية ليست محل نقاش من الأساس.

يجمع بين الفيلمين تصدّر الشخصيات النسائية الصدارة في الأحداث، وهي سمة جمعت بين العديد من الأفلام في المسابقة، منها "الفتيات يبقين فتيات"، و"ماء العين"، و"عن السقوط" وغيرها. أي أن أفلام التمثيل النسائي في المهرجان ككل كانت الأكثر عددًا، وهي بالطبع علامة إيجابية تُحسب لفريق البرمجة في المهرجان بقدرتهم على الاختيار فى هذه المساحة باختلاف وتنوع في القضايا والصراعات الثقافية والاجتماعية. تمتد هذه الحالة إلى أفلام المسابقة لتصل إلى الاختيار الرسمي خارج المسابقة مع فيلم "الحجرة المجاورة" للمخرج بدرو المودوفار، ضمن أفلام أخرى تعبر عن نفس الحالة. جميعها متقاربة في الجودة الفنية، بينما يغرد "الفستان الأبيض" وحده خارج السرب بكل مشاكله الفنية، التي جعلت لدقائق عرضه على الشاشة تأثيرًا سلبيًا، خاصة أن هناك أفلامًا تفوقه في الجودة عُرضت قبله أو بعده، وبالتالي أصبح الفيلم في محل مقارنة لا يستطيع الصمود فيها.

ففي الوقت الذي عشنا فيه رحلة تودا بكل صعوباتها، بداية من الاعتداء عليها وزواجها الذي انتهى بالفشل على مستوى العلاقة، والنجاح بوجود ابنها الذي تحبه وتحاول دعمه بكل قوتها متحدية إعاقته التي تمنعه من التعلم في المدارس العادية وتتطلب دراسته في مدرسة مجهزة لاستقبال حالته، بالتوازي نبحث عن حلمها، وهو أن تصبح شيخة في غناء اللون الموسيقي الشعبي "العيطة"، الذي يُقدّم عادة في الأعراس والاحتفالات الدينية. وهو ما يجعلها تتعرض لنماذج متنوعة من البشر، سواء من زملائها في الوسط أو جمهورها، بالإضافة إلى اضطرارها للعمل في الحانات لكسب عيشها وادخار أموال تمكّنها من تحقيق هدفها في إتقان فن "العيطة"، المشابه لغناء السير في مصر، لكنه يحمل الطابع الثقافي للمغرب، وحصولها على لقب "شيخة" والاعتراف بموهبتها.

ف

رسم شخصية تودا ومن حولها هو أكثر ما يميز الفيلم، وهو الشيء الذي عزّز من حالة التماهي مع البطلة في رحلتها. اختيار الممثلة نسرين الراضي كان مناسبًا جدًا للشخصية بقدراتها المتنوعة، سواء أدائيًا أو شكليًا، ومع الملابس المخصصة للشخصية ومكياجها، مما يدعم تفاعل المشاهد معها وتبني رحلتها، حتى مع كل الأخطاء التي ترتكبها. وتحولت رغبتها في دعم ابنها والاعتراف بموهبتها إلى هدف يسعى المشاهد لتحقيقه مثلها بمنتهى البساطة والكفاءة، وهو ما يُحسب لمخرج الفيلم والمشارك في إنتاجه وكتابة السيناريو الخاص به.

نصل إلى الذروة في مشهد النهاية، الذي يعبر بقوة عن الشخصية، وعدم ميل المخرج لإضافة خاتمة تُشبع الجمهور بنهاية سعيدة، قدر ما ينتصر لشخصيته الرئيسية في رحلتها، ويحافظ على صورتها المستقلة والقوية. في الوقت نفسه، تأتي جيلان عوف بمنتهى الجرأة لتلفّق أحداثًا في سيناريو كتبته وأخرجته، مركزًا على شخصية من منطقة شعبية تبحث في رحلة طريق عن فستان زفاف مناسب يحمل مواصفات معينة، مما يضعها في عدد من المواقف المفتعلة شديدة البعد عن الواقع المصري وعن واقع المناطق الشعبية وتفاصيلها. التي يُعد فستان الزفاف أقل مشكلاتها، وبهذا تضرب المنطقية والواقعية في مقتل، بالتركيز على هذه المشكلة المحلولة من الأساس على أرض الواقع. لم يقدم السيناريو أي مبرر درامي مقبول لعدم قدرة العروس والعريس على توفير فستان للفرح، مما يجعل مخرجة الفيلم تبدو وكأنها قادمة من بيئة مختلفة، ولا تعرف أي تفاصيل عن الطبقة والبيئة التي تدور فيها الأحداث.

بهذا، لوت عنق الدراما لتصنع عقدًا وحبكات هي في الأساس قابلة للحل خلال دقائق، واختارت في النهاية الحل السهل وغير المنطقي والمستحيل تنفيذه بكل حسابات المنطق والخيال الدرامي. وكأنها استخدمت الجملة الحوارية الشهيرة في فيلم "طيور الظلام"، التي جاءت على لسان الشخصية التي قدمها الكبير الراحل أحمد راتب، تعليقًا على طلب صديقه بكتابة بعض الشعارات على لافتات الحملة الانتخابية للوزير، وهي: "يفط إيه اللي عايز تعلقها؟ يبقى الناس عرايا والقماش فوق رؤوسهم ومش طايلينه". بالطبع، لم تكن الشخصية تقصد هنا التعامل مع القماش كمادة أساسية للملابس، بل قصدت الاهتمام بهؤلاء المحتاجين بشكل فعلي. هذه الرؤية الساذجة المطيعة لرغبات جهات الإنتاج الداعمة والممولة للفيلم، حولت الفيلم إلى مناقشة ورؤية سطحية لمجتمع كامل غني وشديد الثراء والتنوع في مصر، استغلته المخرجة برؤية قاصرة، مع اختيارات في غير محلها لبعض الممثلين، وعدم القدرة على إداره وتوجية فريق الممثلين فى  العمل بأكمله، رغم اختلاف خبراتهم، وذلك على الرغم من أنه يضم أسماء من أهم الممثلات في مصر، مع قدرة متنوعة على الأداء وخبرة كبيرة في العمل من خلال وسائط فنية متعددة، وهما سلوى محمد علي ولبنى ونس.

ل

كل هذه المعطيات يجب أن تتحول لوقفة تعيد من خلالها جيلان عوف وبطلتا الفيلم ياسمين رئيس وأسماء جلال حساباتهن وخياراتهن الفنية. في المقابل، يأتي فيلم "رفعت عيني للسما" برؤية واضحة للمخرجين ندى رياض وأيمن الأمير، بصورة حقيقية تعبر عن أشخاص عاديين يحاولون تحقيق أحلامهم بمنتهى الصدق والواقعية، وذلك من خلال فيلم وثائقي عابر للنوع، أُعيد تمثيل العديد من مشاهده لنتعرف على حب مجموعة من الشابات الصغيرات في قلب صعيد مصر يعشقن الفن، ويصطدم هذا الحب بالعادات والتقاليد. مجرد عرض حالة المقاومة ومحاولة كسر التقاليد الخانقة للمرأة هو انتصار في حد ذاته. فكيف إذا تفاعلنا مع قصص هؤلاء الشابات اللواتي يجتهدن ويطوعن شغفهن لخدمة مجتمعهن وأفراده من النساء؟ رغم أن الفيلم لم يعرض الكثير من الأحداث الحقيقية التي تعكس قسوة الواقع وتقلبات القدر في حياة هؤلاء البطلات، فإن التعبير الصادق ووضوح الرؤية لدى المخرج يبقيان من أهم عناصر نجاح أي فيلم. وما أفسده "الفستان الأبيض" جبره الصدق في "رفعت عيني للسما".