"البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو" وللسينما المصرية أيضًا.. فيلم يشبه الناس!
واحد من أهم أدوار المبدعين هو البحث عما يؤرقهم ويشغل تفكيرهم والتعبير عن ذلك بشكل فني يثير نفس التساؤلات عند من يتلقون إبداعهم. ويمثل هذا التسلسل جزءًا كبيرًا من وجدان صناع السينما، خاصة الذين يتصدون لقضايا ونماذج اجتماعية، ويميلون عادةً إلى أن تحمل أفلامهم صبغة فنية غالبة، ويستمدون القوة في التأثير من الموضوع الذي يختارونه ويمس وجدانهم. ومع بساطة الطرح وصدقه، يتحول الفيلم من النوعي الموجه إلى شريحة محددة من الجمهور إلى شرائح أكبر ومتنوعة، وبالتالي يتحول الفيلم إلى جماهيري. هذه التفاصيل على الرغم من تعددها إلا أنها شديدة الأهمية في تحديد مسار أي فيلم، وصانع الفيلم باختياراته يحدد مدى قرب فيلمه من الجمهور الذي يستهدفه.
كيف حول "رامبو" العادي إلى الاستثنائي
قد يبدو من عنوان الفيلم "البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو" أننا أمام فيلم نوعي يتوجه لشريحة المثقفين ومحبي السينما ويترفع عن مغازلة شرائح أخرى من الجمهور، لكن القول المأثور "يظهر الجواب من العنوان" لا ينطبق على هذا الفيلم. فأبطاله يعيشون على الهامش، عاديون مثل الملايين المنتشرين حول العالم، وربما للعاديين مثلهم لا يوجد في قصصهم ما يثير ويطرح تساؤلات. لكن خالد منصور، مخرج الفيلم والشريك في تأليف السيناريو الخاص به مع محمد الحسيني، وجد مدخله في العلاقة الفريدة بين حسن (عصام عمر) وكلبه رامبو. نحن أمام شاب بسيط من الناحية الاجتماعية والمادية يحنو على كلب شارع ويتخذه رفيقًا، وهي علاقة تكافلية موجودة في الواقع، لكن المنتشر أكثر هو اهتمام أفراد الطبقات الأغنى والأفضل تعليمًا وثقافةً بحيوانات الشارع. والسائد لم يكن هدف المخرج، بل جعل من العادي والأكثر انتشارًا، وليس السائد، هو المدخل لنتعرف على معاناة حسن ووالدته الطاف (سماء إبراهيم) وأيضًا معاناة غريمهم كارم (أحمد بهاء). فجميعهم في الهم غارقون، والغريب أنهم لا يساعدون بعضهم البعض.
قاهرة خالد منصور بين "الواقعية الجديدة" والرؤية المعاصرة
يحمل هذا الفيلم روح التمرد التي كانت سمة أساسية عند موجة الواقعية الجديدة في مصر بداية من ثمانينيات القرن الماضي. ويشترك معهم خالد منصور أيضًا في علاقة هؤلاء المبدعين الكبار مع القاهرة وظهورها في أفلامهم. فقاهرة "البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو" موثقة بشكل إنساني وممتزجة مع أحداث الفيلم وتعد أداة رئيسية في التعريف بشخصياته. يختلف ليلها عن نهارها بالشكل الذي يليق بعاصمة كبرى تضم ألوانًا وصنوفًا من البشر والحيوانات في شوارعها العامرة على مدار اليوم. ونفس الليل ونفس النهار يختلف ويتلون بتغير الشخصيات. وعلى ما قد يبدو هذا الأمر بسيطًا ومتكررًا في أفلام الواقعية الجديدة، لكن تنفيذه شديد الصعوبة. وليظهر بشكل جيد وغير مصطنع يحتاج أن يتعامل الصانع مع هذا التوظيف في الفيلم بمشرط جراح. فكيف الحال وقد تكرر هذا التوظيف كثيرًا على مدار أكثر من أربع حقب زمنية تضم عشرات النجاحات ومثلها وأكثر من الإخفاقات؟ لكن ما يقدمه خالد منصور في فيلمه هو رؤية صادقة معاصرة واضعًا يده بدقة على معادلة ظهور شوارع المدينة في الفيلم، وجعل منها كائنًا حيًا يضم هذه الشخصيات في إطار واحد كبير. وسبيله في ذلك أنه لم يكن مفتونًا بها ولا كارهًا، ينظر لها بموضوعية تجمع بين الحب والكره لتظهر بهذا الشكل المميز. كما الحال في أفلام المخرجين الكبار محمد خان وعاطف الطيب وغيرهم، بل وأضاف مسحة حداثية معاصرة تتماشى مع التطور والاختلاف الكبيرين اللذين طالاها بفعل الزمن ورصده من قبل مبدع شاب تأثر بتجربتهم ولكنه لم يكررها في فيلمه.
التفاصيل الصغيرة كأداة لرسم الشخصيات
ليس سهلاً أن تنتهج البساطة عندما تصنع فيلمًا من العدم. قد تتحول بساطتك إلى تصنع وزيف. وزراعة التفاصيل الصغيرة وجعلها محركًا أو استخدامها في الحوار بنغمات مختلفة بالشكل الذي يعدد مستويات تلقيها ليس سهلاً بدوره. والفاصل في ذلك هو النقطة التي يقف عندها صانع الفيلم وفريقه ويتبنون وجهة نظر لعرضها. فتفصيلة صغيرة مثل البيض المقلي بدون ملح الذي يأكله حسن بطيب خاطر ليشارك صديقه الوحيد رامبو في تفاصيله الجسدية، وهي خطورة الملح على صحته ككلب، جاءت في الفيلم بموضعين. أولهم في ثلثه الأول بشكل مبهج وكتأسيس، ثم تأتي مرة أخرى في الثلث الأخير من الفيلم كمناجاة حزينة من حسن لرامبو على الفراق الحتمي.
هذه التفصيلة الصغيرة والبسيطة عندما يتوقف عندها المبدع يجب أن يكون توظيفها مختلفًا، وعلى طريقة التوظيف تتحدد المصداقية. وعلى قدر الاهتمام بالصدق يأتي التأثير. لذلك، جاءت جمل المناجاة والرثاء في نهاية الفيلم مؤثرة عاطفيًا، تعزز الحالة التي شكلها صُنّاع الفيلم جميعًا متعاونين بقيادة خالد منصور، وبالتالي كان التأثير قويًا على المشاهدين.
لم يكن الهدف من الفيلم إثارة تساؤلات حول قضايا معينة أو انتقاد حالة أو وضع اجتماعي، بقدر ما كان الهدف إثارة عواطف محددة لتظهر على السطح عند أي من مشاهدي الفيلم عندما يحتكون بشخصياته، الذين تحولوا إلى أيقونات دالة على حيوانات الشارع، والشباب المهمشين الذين يمتهنون مهنًا بسيطة، والآباء والأهل غير القادرين ماديًا والراغبين في الأفضل لأولادهم. حتى النماذج غير المتحققة التي تتخذ من مظاهر القوة الزائفة درعًا للحماية، وهم في الحقيقة شديدو الهشاشة. "رامبو" و"حسن" و"ألطاف" و"كارم" هم هؤلاء الأيقونات الذين اعتمد عليهم خالد منصور ومحمد الحسيني ليعرضوا حالة عامة وأشخاصًا من لحم ودم قد نجدهم أو نجد بعضًا من صفاتهم في الحياة العادية. هكذا، بمنتهى البساطة، لا هدف لهم سوى العرض، والتفاعل هو كل ما يطلبونه في مقابل هذا العرض.
الشراكة في الإبداع تساوى.. نجاح
من هذه النقطة يأتي تفوق الفيلم. التناغم بين صُنّاع الفيلم وفريق العمل أدى إلى ظهور هذه الحالة الفريدة التي لم تشهدها السينما المصرية منذ سنوات. اختيار التصوير في أماكن حقيقية كان له تأثيره الإيجابي على الحالة ومصداقيتها، وذلك على الرغم من صعوبة التنفيذ، سواء على مستوى الاستكشاف وخلق البيئة المناسبة للتصوير من خلال تصميم الإنتاج عند مارك وجيه، أو اختيار الإضاءة الطبيعية لتكون مصدر الإنارة في مشاهد الفيلم. وقد كان لهذا تأثير عام في رسم حالة الطبيعية واكتمال الإيهام، والذي ارتبط بزوايا التصوير وتكوين الكادرات التي اشترك في إخراجها بهذا الشكل مدير التصوير أحمد طارق بيومي والمخرج خالد منصور.
إيقاع الفيلم الذي اختاره خالد منصور كان أفضل معبر عن أحداثه، ونفذه المونتير ياسر عزمي، والذي جاء هادئًا بطيئًا حتى في أكثر اللحظات تصاعدًا وإثارة، وذلك حتى يصل التأثير المطلوب للمشاهد على مهل، وبالتالي يصل التفاعل مع الفيلم إلى أقصاه. الملابس، التي صممتها ناردين إيهاب، تعامل معها خالد منصور كعنصر فني على نفس القدر من الأهمية مع العناصر الأخرى في التعبير عن شخصياته وحالتهم الشعورية. يتجلى ذلك في المفارقة بين طبيعة عمل الشخصية الرئيسية "حسن" كفرد أمن في مقابل عدم شعوره بالأمان الدائم، والذي كان معادله البصري هو غياب حرفين من حروف كلمة Security على زي عمله الموحد في النصف الأول من الفيلم، ثم التأكيد على غياب الأمن وسيطرة الخوف والعجز على "حسن" في مشهد الجامع، حيث ينتزع باقي حروف الكلمة من زيه.
كان هذا مشهدًا صامتًا ضخمًا من الإحساس بالتوتر بسبب الموسيقى التصويرية التي ألفها أحمد مصطفى زكي، وزاوية التصوير التي تم اختيارها من منظور عين الطائر جعلتنا كمشاهدين في منزلة المراقبين لحسن، وليتضخم التأثير أكثر، أستخدم المخرج الإضاءة القادمة من قبة الجامع وكذلك أسمين من أسماء الله تعالى الحسنى وهما: المعز والمذل بما يحملان من معانٍ واسقطات تعبر عن رحلة حسن في بحثه عن الأمان.
من التصريحات الشهيرة لمصمم المناظر السينمائي الكبير أنسي أبو سيف في محاضراته أثناء فعاليات مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير في دورته عام 2024 قوله: "نشتغل مع بعض، دي أهم حاجة.. السينما مش شغلة واحد.. والسينما مفيهاش أعظم واحد.. مفيهاش أعظم سيناريست، مفيهاش أعظم مصور، مفيهاش أعظم مهندس، مفيهاش أعظم مخرج، لكن فيها أعظم عمل وبيتم بالشراكة. ولو في واحد فيهم مش على مستوى النغمة دي، بيبقى متعب، وبيبقى في مجهود عشان يضموه للمجموعة".
هذه الجمل البسيطة تصف حالة العديد من الأفلام التي تسقط في دوامات بسبب شخص في فريقها أو بادعائها العظمة، أو بادعاء أحد أفراد الفريق دون غيره العظمة. هذه الدوامات لم تكن موجودة في "البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو"، على الرغم من صعوبة التنفيذ ومشقة صناعة فيلم عمومًا في الوقت الحالي، والصعوبات الإضافية الملقاة على عاتق صُنّاع الأفلام المستقلة. لكن إيمان أفراد الفريق في كل عناصره مع منتجته رشا حسني ورحلتها الطويلة، سواء في التطوير أو جمع التمويل للتنفيذ، يؤكد على تعاضد الفريق وإيمانهم الشديد بما يصنعون، وهو ما يُعد واحدًا من الاختيارات الأساسية التي ساهمت في دعم حالة المصداقية والبساطة في الفيلم.
التمثيل كعنصر حاسم في التفوق
كل العناصر الفنية السابقة بكل تحديات تنفيذها بالشكل المتفوق الذي ظهر به الفيلم يمكن اعتبارها على جانب، وعنصر التمثيل وحده على جانب آخر، وذلك فيما يتعلق بدور العناصر في نجاح الفيلم. فكل التفاصيل السابقة لم تكن لتظهر بهذا الشكل لولا الممثلين وأداؤهم وإدارة هذا الأداء من قبل المخرج. ففي كثير من الأحيان، اختيار الممثلين وتسكينهم في الشخصيات يكون أكثر أهمية من العديد من العناصر، لأن اختيارًا واحدًا ليس في محله سيهدم المنظومة ككل.
في هذا الفيلم، جاءت اختيارات الممثلين للشخصيات الرئيسية والثانوية والضيوف على نفس القدر من الأهمية والجودة وحسن الاختيار. بداية من البطل الرئيسي عصام عمر بكل إمكانياته وملامحه الشكلية والجسدية التي تصلح للتوظيف في العديد من الشخصيات المختلفة، وهذا هو الشق الواقع على مسؤول اختيار الممثلين. أما الشق الآخر الذي يحمل مسؤوليته المخرج والممثل فهو الأداء، والذي أتقنه عصام عمر بشكل جيد، وظهر ذلك حتى في مخارج الكلمات والحروف الدالة بشكل قوي على البيئة والتنشئة التي حظيت بها شخصية "حسن".
الأمر نفسه ينطبق على ركين سعد وأحمد بهاء، وتعامل المخرج مع هذه الشخصيات يختلف كل الاختلاف عن تعامله مع شخصيات أخرى لها طبائع مختلفة، كالشخصيات التي قدمها حسن العدل وأحمد السلكاوي وسماء إبراهيم. حتى الشخصيات الثانوية التي قدمها غير محترفين كخالد جواد، أو الصاعدين أصحاب الخبرة الأقل كجهاد حسام الدين، أو أصحاب الخبرة الأكبر كبسمة ويسري اللوزي.
ثم التعامل معهم كحالة عامة داخل إطار الفيلم، ومع صعوبة التوجيه الخاصة بتصوير المشاهد التي تضم الحيوانات، ندرك حجم المجهود الخرافي الذي بذله الممثلون والمخرج وباقي الفريق، وظهروا جميعًا بشكل متناغم.
على سبيل المثال، جعلت من وجود مشهد شبقي يتجلى في رغبات حسية، كالذي جمع بين شخصيات ركين سعد وعصام عمر، يخرج بشكل عذب يتماشى مع طبيعة الفيلم. الفيلم لا يحتاج إلى مشاعر صاخبة حسية تعتمد على التلامس أو التقارب بين الممثلين، بقدر ما يحتاج أن يظهر هذان الممثلان كمّ الكبت والرغبة في صمت.
لأن هذا التعبير هو الأنسب لوضعهم دون الحاجة لتصميم مشهد صارخ ربما يقلل من حجم التأثير، وفي الوقت نفسه يفتقد للمصداقية كونه لا يعبر عن طبيعة الشخصيات. لذلك، يُعد أداء الممثلين في هذا الفيلم هو العنصر الأهم والأكثر تأثيرًا في نجاحه وتفوقه.
أهمية هذا النوع من الأفلام تأتي من أنها تأكيد على أن السينما المصرية موجودة وبقوة، حتى مع الزيادة العددية للأفلام ذات الصبغة التجارية، في مقابل الأفلام ذات الصبغة الفنية. وأن المبدعين المصريين في صناعة السينما موجودون، ينتظرون، مثلهم مثل السيد رامبو، منفذًا للخروج، ولكن ليس للخارج طلبًا للحماية وحياة أفضل، بل يتمثل المنفذ في الدعم المادي والمعنوي من الداخل، ليتمكنوا من صناعة أفلام مغايرة للسائد تعادل الكفة لصالح الصناعة، وتسمح بخروج الفيلم المصري ووصوله إلى المنافسات العالمية.