خاص "هي": مسلسل "Slow Horses".. جاري أولدمان مايسترو أوركسترا الفاشلين في دراما جذابة!
بعيدًا عن الصورة الأنيقة للعميل السري البريطاني "جيمس بوند" يُقدم "جاري أولدمان" في مسلسل Slow Horses (خيول بطيئة) شخصية جاكسون لامب؛ صورة غريبة لعميل جهاز الاستخبارات الداخلية البريطاني MI5؛ هو حرفيًا أقرب إلى شخص مُتسول بلا مأوى يعيش في الشوارع، تنقصه معايير النظافة الشخصية والنظام والذوق في التعامل، شخصية مُقززة بكل ما تحمل الكلمة من معان، ولكن شخصية لامب تحمل أبعاد أكثر من الظاهر القبيح؛ فخلف قناع اللامبالاة والسخرية يقبع داخله شخص يداري صراعاته الشخصية وجراحه النفسية؛ هو أحد المنبوذين من جهاز المخابرات البريطاني، يعمل في مكان متواضع في أحد أزقة لندن؛ يرأس مجموعة من المنبوذين أو الخيول البطيئة، التي لا تصلح للسباق.
خلف الأقنعة!
في الموسم الرابع من المسلسل البريطاني نجد أنفسنا أمام عمل لا زال قادرًا على جذب المشاهد؛ بواسطة تقديم حبكة ذكية ومحكمة، ورسم دقيق لشخصيات معقدة، ومزيج متوازن بين الدراما والكوميديا السوداء، ولا يغفل بالطبع عنصر الإثارة التي تميز أعمال الجاسوسية. يتجنب العمل عيوب الأعمال المسلسلة التي تقدم استطرادات غير مُحكمة من القصة؛ استغلالًا لنجاح المواسم السابقة، فهو قادر على خلق حبكة مُتقنة ترسم مستويات من الصراع بين الشخصيات، وتكشف مستويات من الألم الشخصي الذي يختفي خلف قناع جامد يضعه كل واحد منهم.
يتعمق العمل في القصة الأصلية، التي تركز على الصراع داخل جهاز المخابرات البريطاني، والمؤمرات التي تديرها ببراعة ديانا "كريستين سكوت توماس"، التي تشغل منصب نائبة المدير العام لجهاز الاستخبارات الداخلية MI5 ورئيسة العمليات، والشد والجذب بينها وبين جاكسون لامب الذي يخفي ذكاء حاد خلف فظاظته ومظهره الرث ووضعه المهني البائس، وفي حين تستخدم ديانا من حولها كبيادق لخدمة أغراضها دون أن تكترث لمصيرهم، تبدو قسوة وفظاظة لامب في تعامله مع موظفيه ستار لولاءه الشديد لهم وحمايته لهم.
شخصيات مكتب "الخيول البطيئة" تقوم بمهام متواضعة لا تليق بوظيفتهم الأصلية؛ يتعامل كل منهم مع عار وجوده في هذا المكان البائس الذي يشبه مكب النفايات، ويُحاول تجاوز مدّة عقوبته حتى يعود إلى المكتب الرئيس الأنيق لجهاز الاستخبارات الداخلية. ارتكب كل منهم خطأ كانت نتيجته وجوده في هذا المكان، وداخل كل منهم أزمة شخصية وماضي يُحاول تجاوزه.
الظلال والمؤمرات!
في الموسم الجديد تنفجر قنبلة انتحارية في مركز ويستاكرز للتسوق في لندن، وتبدأ مطاردة الإرهابي الذي يقف خلف التخطيط للهجمة، وحينما يتدخل مكتب الخيول البطيئة عرضًا في المطاردة تتكشف كثير من الأسرار وتذهب أحداث القصة في اتجاهات غير مُتوقعة، وينسج "ويل سميث" سيناريو محكم عن رواية للكاتب "ميك هيرون"، يتضمن مستويات عميقة من التويستات الدرامية التي تؤكد أن الحقيقة مدفونة أسفل أنقاض من المؤامرات والدسائس التي تكشف فشل المؤسسات الكُبرى في تحمل مسؤليات المهام المنوطة بها، وسيطرة المصالح الشخصية عن الواجب الوطني مما يضع شخصيات في مناصب حساسة في محل شكوك في نواياها والتزامها بالمصالح العليا للدولة.
في نفس الوقت تُحقق الشخصيات الموصومة في مكتب الخيول البطيئة نجاحات تؤكد أن أخطائهم الشخصية لا تعني أنهم شخصيات فاشلة تمامًا، بل هم شخصيات تعاني تناقض طموحها وحساسية مهنتها وضعفها البشري، وهذا حصرها داخل الظلال. على الرغْم من استخدام الإضاءة القاتمة وبالتة ألوان باردة تعبر عن شخصيات قاتمة لكن الكاميرا من حيت إلى أخر تؤطر القتامة بمشاهد جميلة من الريف الانجليزي والريف الفرنسي، وهذا التناقض أضاف طبقات من الغموض لأحداث الحبكة.
الخيول البطيئة!
يقود لامب هذا الأوركسترا المضطربة ببراعة وصخب؛ فهو يقسو عليهم ولكنه يعلم أنه واحد منهم، وأن أخطائهم لا تعني أنهم عملاء فاشلين تمامًا، وهو يدفع بهم إلى أعمال ميدانية صعبة مُحاولًا إنقاذ الوطن من مؤمرات جهاز الاستخبارات ونائبته الماكرة ديانا. مِيزة مكتب الخيول البطيئة هي العمل تحت ستار الإهمال والفشل؛ لا أحد يكترث فعليًا لمجموعة من الُعملاء المُكللين بعار الفشل، وهذا يمنحهم قدرة على التحرك دون لفت نظر أحد إليهم.
تحاول شخصيات المكتب المغضوب عليه حل مشاكلها الشخصية في نفس الوقت الذي تحاول فيه استعادة وظيفتها واحترامها لنفسها؛ يكافح ماركوس "كاديف كيروان" للتخلص من إدمانه للمقامرة، ويزعم خبير التقنية غريب الأطوار رودي "كريستوفر تشانج" أن لديه صديقة، وتم استبدال السكرتيرة الدؤوبة ستانديش "ساسكيا ريفز"بمويرا تريجوريان"جوانا سكانلان" التي تبدو كفؤة، وانضم جيه كيه كو "تيك بروك" الذي يعاني اضطراب ما بعد الصدمة إلى الفريق، ويستمر ريفر "جاك لودن" في تجاوز القوانين وممارسة العمل الاستخباراتي بعيدًا عن قتامة وخمول مكتب الخيول البطيئة، وفي الوقت نفسه يُحاول رعاية جده عميل الاستخبارات السابق الذي يُعاني ألزهايمر.
تتطور عِلاقة لامب بموظفيه بالسلب والإيجاب، ولكن علاقته الأبرز هي بشخصية العميل الشاب ريفر، وقد تحولت من الكراهيَة والتصادم إلى الاحترام المتبادل، يُمثل ريفر العنصر الإيجابي الأهم في مكتب الفاشلين، لم يستسلم لعقوبته وكسر كثير من القوانين لتصويب الأمور، بعيدًا عن أي أغراض شخصية، وهذا حفز لامب على تسخير ذكاءه الحاد وقدرته على المراوغة والتلاعب من أجل حل قضايا لم يقدر على حلها جهاز الاستخبارات، وهذا يُدخله وفريقه في معارك داخلية مع أفراد الجهاز وعلى رأسهم ديانا.
جاسوسية ومشاعر!
نحت "جاري اولدمان" أحد أهم الشخصيات التي قدمها في مسيرته الدرامية؛ شخصية لا يمكن أن تضعها في كفة الأبيض أو الأسود، فهو مزيج من الإثنين، يمزج أدائه بين الفظاظة والسخرية والالتزام الأخلاقي واللامبالاة، كل هذا ينصهر داخل شخص لم يكن ماضيه مثاليًا، وحاضره يبدو كابوس لا يستيقظ منه، أجاد "أولدمان" في الانتقال شديد الحساسية بين المشاعر المتناقضة دون افراط أو مبالغة.
نجاح المسلسل حتى الآن يعود إلى عدة عناصر قوية ومتماسكة، وأبرزها الحبكة الدرامية وأداء الممثلين، حتى من قدموا أدوار صغيرة، وقدر الإخراج على تقديم دراما جاسوسية مُحكمة مليئة بالمشاعر والصراعات النفسية، وهذا يجعل متابعة حلقات المسلسل مسالة جذابة وممتعة، فهو لا يجعل مشاهد الأكشن ركيزة العمل الرئيسية، بل منطلقًا لتصوير المشاعر البشرية وتفاعلاتها مع ازماتها الشخصية ومع العالم المحيط بها.
الصور من موقع apple tv.