فيلم "يونان"

خاص "هي" مهرجان برلين السينمائي 2025- "يونان"، هل يمكن أن يُحيينا الغرق؟

أندرو محسن
25 فبراير 2025

طبقًا للعهد القديم، فيونان كان نبيًا أمره الله بأن يذهب إلى أهل مدينة نينوى ليحذرهم من عواقب خطاياهم، ولكن يونان رفض وهرب باستخدام سفينة، وأثناء رحلة الهروب قامت عاصفة وأُلقي يونان إلى البحر ليبتلعه حوت ويبقى داخله لمدة ثلاثة أيام قبل أن يلفظه الحوت على شاطئ مدينة نينوى.

بعد حوالي أربع سنوات من عرض فيلمه الرائع الأول "الغريب"، يقدم المخرج سوري الأصل أمير فخر الدين فيلمه الطويل الثاني "يونان" والذي عرض ضمن مسابقة مهرجان برلين السينمائي الدولي في دورته 75، بميزانية أكبر وفريق عمل متعدد الجنسيات، منتقلًا من الجولان التي دارت فيها أحداث الفيلم الأول إلى ألمانيا هذه المرة. لكن هذا الفوارق الملحوظة، لم تمنع أن ينتمي الفيلم في النهاية بشكل واضح إلى عالم مخرجه بشكل لا يحمل اللبس.

تُنسى كأنك لم تكن

ربما كانت قصيدة محمود الدرويش الشهيرة "تُنسى كأنك لم تكن" من أشد ما كتب حزنًا وألمًا. ما الذي يمكن أن يوجع الإنسان أكثر من يأتي ويمضي دون أن يترك أي أثر، ودون أن يشعر أحد بوجوده أو بما فعله. ربما كان الأذى أخف في حالة أنك لا تشعر به، لا تشعر بأنك لست موجودًا أو لست فاعلًا، لكن ما أن تشعر بذلك لا يمكن تجاهله أبدًا، وكانت هذه أزمة منير.

منير المهاجر اللبناني إلى ألمانيا (جورج خباز) يشعر باكتئاب مزمن، يؤثر على عليه بصور متعددة، ويمنعه من مواصلة كتابة روايته، مما يدفعه إلى التفكير في الانتحار. يسافر جورج إلى جزيرة ذات طبيعة غريبة، نتيجة العواصف، تغمرها المياه بالكامل إلا مساحة قليلة جدًا منها، وأثناء ما هو محاط بالمياه هناك، يعيد التفكير في حياته.

منذ أول لحظة نراه فيها، نشعر أن منير يتألم، لكننا لا نتعرف على أزمة محددة هي التي جعلته في هذه الحالة، بل الأمر أقرب لشعور تراكمي نتيجة الكثير من الخسارات والهزائم في حياته. منير لا زال متعلقًا بأسرته في لبنان، وخاصة أمه (نضال الأشقر)، ويحاول التعامل مع واقع لا يبدو الأفضل، وعندما يذهب إلى الجزيرة فإنه يذكرنا بيونان بالفعل، يهرب من مصيره إلى مكان آخر ليجد نفسه محاصرًا ومدفوعًا إلى مواجهة ما هرب منه.

يشبه منير شخصية عدنان من فيلم "الغريب" في فكرة الهرب والحزن، عدنان كان يشعر بأنه لا ينتمي إلى هذا المكان، ولا يستطيع التواصل مع زوجته أو أبيه، منير يتواصل مع أمه لكنه يشاركه حالة عدم الانتماء. عدنان ومنير يشعران بأنهما "لم يكونا"، الفارق الرئيسي أن الأول كان يشعر بالاغتراب بين أهله، والثاني كان يشعر بالاغتراب وحيدًا في غير وطنه، وهو ما زاد من أساه.

فيلم "يونان"
فيلم "يونان"

أغالب فيك الشوقَ والشوق أغلبُ

بهذا البيت الشهير للمتنبي يبدأ الفيلم، واختيار هذه الأبيات بالتأكيد لم يكن اعتباطيًا إذ أنها تعبر عن عدم ارتياح صاحبها لا في الوصل ولا في الهجر "وأعجب من ذا الهجر والوصل أعجبُ". لا يعبر هذا الشعر فقط عن حالة بطل الفيلم، ولكن أيضًا عن تمسك أمير فخر الدين بالشكل الشعري لفيلمه الثاني والذي ربما كان أوضح حتى من الفيلم الأول. كما ذكرنا فإن الأحداث تدور أغلبها داخل الجزيرة، ولكن ما لم نذكره هو أننا ننتقل من خلال خيالات منير، أو من خلال القصة المتكررة لأمه، إلى عالم آخر مُتخيل، قديم وخالٍ ولكنه حزين أيضًا. في هذا العالم نشاهد فقط راعي الغنم ذو الوجه المشوه (علي سليمان) وزوجته الجميلة (سيبيل كيكيلي). يستعين أمير بكل تفاصيل العالم المحيط بالشخصيات ليخلق صورة متكاملة للحالة التي يود إيصالها، يأخذ وقته في اللقطات ويحرك الكاميرا ببطء ولكن بدقة، حتى يسحب المشاهد إلى داخل الشاشة تمامًا، وهنا ينبغي التأكيد على أن هذا فيلم سينما بمعنى الكلمة، فيلم يجب مشاهدته على الشاشة الكبيرة للتوحد مع تفاصيله.

في الوقت نفسه تجدر الإشارة إلى أن الفصل الثاني من الفيلم ربما كان أبطأ من اللازم قليلًا، وكان واضحًا أن المخرج والذي قام بعملية المونتاج أيضًا، تمسك بعدة مشاهد جميلة بصريًا وتضيف إلى الحالة الشعرية لكنها لم تُضف جديدًا للفيلم نفسه.

لا فم ولا أنف 

أول ما نسمعه في هذا الفيلم هو الموسيقى المؤثرة لسعاد بشناق، والتي تضيف الكثير إلى مشاهد الفيلم خاصة مع وجود الكثير من المشاهد الصامتة، وهذا يحيلنا إلى آخر ما يمكن التوقف عنده في هذا المقال، وهو المجهود المبذول في اختيار الممثلين أولًا وفي أدائهم ثانيًا. يجمع الفيلم أسماء بارزة من مختلف الشرق والغرب، من لبنان وألمانيا وفلسطين، ولكن لا يمكن للحظة أن نشعر أن أيًا منهم كان متواجدًا لمتطلبات إنتاجية فقط، بل كل مناسب جدًا في مكانه، حتى من يظهر منهم في مدة قليلة جدًا مثل نضال الأشقر، فإنها تترك تأثيرًا بمجرد سماع صوتها.

ولكن في الحقيقة كان التحدي الأكبر أمام أبطال الفيلم هو في عدم وجود حوار في أغلب المشاهد. في قصة الراعي المتكررة، تذكر الأم أن الراعي لم يكن يملك فمًا ولا أنفًا، وهو حزين جدًا، ولكن تصاحبه دائمًا زوجته الجميلة. وهكذا عندما تتحول القصة المسموعة إلى مشاهد مرئية على الشاشة، فإننا نشاهد الراعي بفم وأنف لكنه لا يتكلم وبالتالي لا تتكلم زوجته أيضًا، لكن علي سليمان وسيبيل كيكيلي ينقلان كل المشاعر المطلوبة دون حوار. وفي هذا تستكمل هذه القصة واقع منير الذي يشعر أيضًا أنه لا الوسائل التقليدية للتواصل مع العالم المحيط، حتى تصبح مجرد مواصلة العيش بالنسبة تتطلب مجهودًا كبيرًا.

عادة ما يكون التحدي في الفيلم الثاني لدى المخرجين أكبر من الفيلم الأول، فإن كان الفيلم الأول جيدًا، فالثاني هو ما يحدد إن كان هذا المخرج مُتمكنًا بالفعل أم أن موهبته محدودة. في "يونان" يؤكد أمير فخر الدين أنه لديه الكثير جدًا لتقديمه.