
مسلسل "النُص".. أحمد أمين وكوميديا تاريخية ساخرة بتحديات فنية
تُعد حكاية المعلم عبد العزيز النُص النشال، التي قدمها (أحمد أمين)، واحدة من حكايات مجتمع المهمشين في النصف الأول من القرن العشرين، وهي حقبة لا تهتم بها الدراما كثيرًا. بطل الحكاية شخصية من قاع المجتمع، أرّخت الصحافة حكايته أو ألفتها من وحي شخصيات حقيقية عاشت في تلك الحقبة. أضاف كاتبها بعض التوابل التي تمنح القصة جاذبية، ووصلتنا على هيئة كتاب حمل عنوان (مذكرات نشال) كتبه الصحفي (حسني يوسف) في الثلاثينيات. أعده الكاتب أيمن عثمان، الذي شارك (أحمد أمين) في كتابة حلقات مسلسل (النُص) مع فريق كتابة السيناريو: شريف عبد الفتاح، عبد الرحمن جاويش، وجيه صبري. أخرج العمل (حسام علي)، وهو أحد أبرز الأعمال الكوميدية التي عُرضت في شهر رمضان.
النشل والمقاومة
شخصية النُص، النشال التائب، تضطره الظروف إلى العودة لعالم الجريمة من أجل توفير أتعاب المحامي الذي يتولى قضية شقيقه المناضل، الذي قبض عليه البوليس بحوزته منشورات سياسية ضد المحتل الإنجليزي. إلى هنا، القصة مجرد دراما نمطية عن مغامرات مجرم بارع في مهنته، يعود إلى عالم الجريمة بعد أن هجرها والتحق بوظيفة كمساري في هيئة الترام، وهي وظيفة شريفة ومتواضعة قبل بها النُص ولم تقبل هي به، فعانى كثيرًا مع مديره الصارم في العمل.
يتداخل عالم النشل والنصب مع النضال ضد الإنجليز في مزيج ساخر لطيف في العمل، خاصة حينما تتجمع شخصيات مثل النشال النُص (أحمد أمين)، ورسمية (أسماء أبو اليزيد) التي تستغل جمالها للنصب على الرجال، والصاغ علوي (صدقي صخر)، الضابط الطموح الذي يسعى للقضاء على جرائم النشل، ودرويش (حمزة العيلي)، عامل مخزن ملابس التياترو الذي يعاني اللعثمة، وزقزوق (عبد الرحمن محمد)، الشاب الذي ترك مرحلة المراهقة لتوه ويحاول الدخول إلى عالم الكبار، ومخترع غريب الأطوار (ميشيل ميلاد بشاي). هذا الجمع المتناقض يتنافس في الواقع، ويجمعهم حب الوطن وكراهية المحتل الإنجليزي. بطريقة ما، تتقاطع عمليات النصب التي يديرها النُص مع مقاومة الإنجليز، وشيئًا فشيئًا يصبح النُص بطلًا شعبيًا تملأ أخباره الصحف والمجلات، ويسعى الإنجليز للقضاء على أسطورته بأي طريقة.

روبن هود
كانت جرائم النشل منتشرة في حقبة الثلاثينيات مع انتشار وسائل المواصلات العامة والزحام الذي يصاحبها. يدخلنا السيناريو إلى عالم النشل والنصب من خلال شخصية النُص، وهو شخصية تحمل الكثير من لقبه؛ فهو نصف لص ونصف تائب، لديه أخلاقيات يلتزم بها في عمله المشين، فهو لا يسرق قروش الغلابة والفقراء، وقد يستغل مهارته ليساعد الآخرين، مثل سرقة دواء نادر من كامب إنجليزي من أجل سيدة مريضة بالكاد يعرفها. سلوكياته واهتمامه بالآخرين تقترب من ملامح شخصية روبن هود، اللص الإنجليزي الذي كان يسرق الأغنياء ليعطي المال للفقراء.
تركيبة النُص الدرامية، كما صاغها أحمد أمين في أدائه، تتمتع بجاذبية خاصة؛ فهو خفيف الظل ويتمتع بذكاء فطري وساخر، وكلها مؤهلات صنعت منه بطلًا شعبيًا دون أن يقصد هو ذلك. لقد تداخلت ظروف شخصية وعامة لتدفعه في طريق لم يتوقع هو دخوله، ولأنه مغامر بطبيعته، فقد انجرَف مع تيار مقاومة الإنجليز دون أن ينسى مهنته التي برع فيها.
ربما لم يركز المسلسل على بعض دوافع عودة النُص إلى السرقة، وركز على الدافع الشخصي وهو توفير أتعاب المحامي. لكن فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى شهدت غلاء أسعار كبيرًا أثر على الفقراء والطبقة المتوسطة، وربما ساهم في انتشار جرائم النشل والنصب، وساهم في تكوين شخصية مثل النُص ورفاقه ممن يتمتعون بخفة اليد.

الإنجليز ونمطية الأداء
اجتهد صناع المسلسل لتقديم صورة بصرية خلابة للقاهرة في حقبة الثلاثينيات؛ استخدموا مزيجًا من ديكورات القاهرة القديمة في مدينة الإنتاج مع إضافات رقمية متوسطة الجودة. أضاف ديكور منزل النُص ورسمية والتياترو ومنزل الصاغ علوي وعمه همام أجواءً تلائم الزمان والحدوتة. يضاف إلى ذلك استخدام نوعيات قديمة من السيارات تعود إلى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى.
بشكل عام، العناصر الفنية مثل الديكور والإضافات الرقمية لم تتجاوز المستوى المتوسط أو المقبول، وكان يمكن أن تكون أفضل من ذلك، ولكنها أزمة عامة في الدراما التي تصور حقبًا زمنية قديمة لها ملامحها الخاصة.
أكثر عناصر المسلسل إزعاجًا هو شخصية الضابط الإنجليزي مكميلان (باسم قهار). وهو ممثل جيد، لكنه لا يجيد الإنجليزية ويتحدثها بلكنة بعيدة عن اللهجة البريطانية، وحتى في حواره بالعربية لا يبدو ضابطًا بريطانيًا، بينما بدت الممثلة التي أدت دور صحفية إنجليزية أكثر إقناعًا. بالإضافة إلى اللكنة، قدم المسلسل شخصية الضابط الإنجليزي بنمطية ولم يضف لها عمقًا أو أبعادًا درامية. وهذا ما حدث أيضًا مع شخصية المحامي التي قدمها (مراد مكرم)، وعدد من الشخصيات الثانوية التي لم تنل حظها من رسم ملامحها الخاصة.

أجواء التياترو، وهو المكان الذي يعمل ويقيم فيه شخصية درويش (حمزة العيلي)، كانت تحتمل تسليط الضوء أكثر على تفاصيل الشخصيات الأخرى وأجواء المكان، خاصة أن 15 حلقة كانت مساحة زمنية لرسم ملامح أعمق لتأثير الفن وشخصيات مثل الممثل والمونولوجيست والراقصة على المجتمع وملامح الترفيه وقتها.
شخصيات مهشمة
شخصية رسمية (أسماء أبو اليزيد) تم تخفيف تفاصيل أساليبها في النصب بما يلائم المعايير التي وضعها صناع العمل؛ فظهرت نظريًا فتاة تستخدم فتنتها للإيقاع بالرجال، في حين لم تحاول الشخصية القيام بأي مجهود لرسم ملامح هذا الإغراء أو الفتنة، بل ظهرت الشخصية مثالية ومهذبة بصورة مفرطة.
قدم (صدقي صخر) شخصية شرطي شاب داخله صراع بين واجبه المهني وحسه الوطني، وحاول تجسيد صرامة وجدية شخصية رجل الأمن المخلص لمهنته. ورغم تلك الصرامة، إلا أن الأحداث والمواقف اللاحقة تبرز جوانبه الإنسانية حينما تتطور علاقته مع شخصية النُص من علاقة ضابط بمصدر يعرفه بعالم النشل إلى ما هو أبعد من ذلك.
لعب حمزة العيلي دور درويش، صديق "النُص" ورفيق دربه القديم، وهي شخصية معقدة تعاني التهميش والحرمان العاطفي، أجاد تصويرها العيلي.

(النُص) دراما تاريخية مبتكرة، تحمل تحديات كثيرة في تنفيذها ورسم ملامحها العامة، إذ ترسم أجواء المقاومة الوطنية للمحتل من منظور مختلف، وهو منظور المهمشين. اختيار شخصية النشال ليكون محور عمل يمزج الوطنية بأعمال الأشقياء مصدر جاذبية لدراما مزجت بين واقع تاريخي وخيال درامي ولمسات كوميدية تحمل بصمة (أحمد أمين) الساخرة. شكلت قدرته على التحول بين الميلودراما والكوميديا شخصية النُص المتناقضة، وكان أداء أمين بوابة تجسيد شخصية النشال المهمش الذي يجد نفسه في قلب أحداث سياسية كبرى. وقد استغل مع فريق العمل دلالة اسم النُص لتكون لزمة كوميدية وكود شخصية نصفها مجرم نشال والنصف الآخر مقاوم بطل.