
اصنع فيلمك بنفسك.. كيف تُدير هوليوود حربها المزيفة مع الذكاء الاصطناعي؟
قبل أيام قليلة، دخلت إلى يوتيوب بحثًا عن الإعلان الرسمي لفيلم يُدعى "Superman: Legacy" (سوبرمان: الإرث). ما شاهدته كان مدهشًا: مقطعًا مدته دقيقتان يظهر الممثل هنري كافيل في دور البطل الخارق سوبرمان وهو يحارب وحوشًا فضائية في مدينة نيويورك المدمرة، مع تفاصيل ومؤثرات دمار تبدو كأنها من إخراج كريستوفر نولان. رغم متابعتي لكل ما تصنعه السينما العالمية، فاجأني هذا المقطع المسرب بحبكته. بدأت أبحث عن معلومات أكثر عن الفيلم الرسمي، وشكوك كثيرة تدور في رأسي تتعلق ببعض اللقطات. لم يستغرق الأمر دقائق حتى اكتشفت أن كل ما شاهدته كان خدعة رقمية شديدة الإتقان.
باتمان ضد وولفرين!
لم تكن تلك الخدعة الأولى من هذا النوع التي تنتشر على مواقع السوشيال ميديا. في كل مرة، تزداد الخدع إتقانًا، وأجد نفسي في موقف حرج أمام إعلانات دعائية لأفلام ملحمية أو مسلسلات بأفكار مذهلة لا أعلم عنها شيئًا. من السهل الشك في معلومات إخبارية مكتوبة في موقع مغمور، ولكن كيف تواجه فيديو بالصوت والصورة يضم ممثلين وحوارًا ومؤثرات بصرية مذهلة وحبكة درامية لم تسمع عنها من قبل؟ فيديو إعلان سوبرمان المزعوم صنعته قناة على يوتيوب تُدعى "Screen Culture" باستخدام الذكاء الاصطناعي.
لم يكن هذا الفيديو الوحيد الذي أنتجته هذه القناة التي تحقق مشاهدات كبيرة وتجني منها أرباحًا طائلة. القناة مملوكة للهندي نيكيل شودهاري، الذي يعمل مع فريق من 12 شخصًا تتنوع تخصصاتهم بين تحرير الفيديوهات وتوليد الصور وتحريكها بواسطة برامج الذكاء الاصطناعي الحديثة. هذه البرامج يمكن لأي شخص الاشتراك فيها بعدة دولارات شهريًا، وتمنحه القدرة على توليد صور واقعية فائقة الجودة وتحريكها بشكل طبيعي للغاية. كما تتيح اشتراكات مجانية للجميع بإمكانيات محدودة يوميًا للهواة.
في ضاحية من ضواحي مدينة مومباي الهندية، يجتمع فريق نيكيل شودهاري ويتبادلون الأفكار حول الأفلام التي يتمنون مشاهدتها، أو ملامح الأجزاء الجديدة من مسلسلاتهم المفضلة. غالبًا ما يتفقون على أفكار جنونية لم تطرأ بخيال هوليوود، منها مثلًا: ماذا لو التقى باتمان مع وولفرين في فيلم واحد؟ يطرحون الفكرة على موديل لغة عملاق مثل ChatGPT، الذي يكتب سيناريو افتراضيًا كاملًا ومفصلًا للقصة. ثم تبدأ عملية توليد صور من المشاهد التي كتبها البرنامج، وبعد تحريك كل لقطة بواسطة أحد برامج تحريك الصور المتعددة، يقوم الفريق بتحرير الفيديو ورفعه على يوتيوب.
اسمي جيمي بوند!
في هذه الغرفة الصغيرة، لا توجد معدات إنتاج باهظة الثمن ولا نجوم يحصلون على ملايين الدولارات كأجور، فقط عدد من الشاشات وأجهزة الكمبيوتر العادية، وفريق عمل لديه شغف بالسينما وخيال واسع. هذا الاستديو السينمائي الافتراضي الصغير أنتج عددًا من الفيديوهات القصيرة من هذا النوع، أشهرها كان إعلانًا مزيفًا لفيلم "The Fantastic Four: First Steps" (الأربعة المذهلون: الخطوات الأولى)، حيث عرض مشاهد أكشن شديدة الإتقان وشخصيات تم تصميمها بالكامل بالذكاء الاصطناعي. المقطع حصد 15 مليون مشاهدة خلال أسبوع واحد، وربح ما يقارب 500 ألف دولار من عوائد إعلانات يوتيوب على الفيديو (حاليًا وصلت مشاهداته إلى 29 مليون مشاهدة). تحارب استديوهات هوليوود هذا النوع من الفيديوهات لانتهاكها حقوق الملكية الفكرية.
فتح الذكاء الاصطناعي الباب على مصراعيه أمام خيال المتفرج العاشق للسينما لصنع أفلامه بنفسه. يكفي أن تكون ملمًا ببعض أدوات توليد الصور وتحريكها حتى تستطيع صناعة مشاهد محاكية لأفلام هوليوودية لم تنتجها هوليوود ولا تعرف عنها شيئًا، وأن تكسب مئات وربما ملايين الدولارات من نشرها على قناة يوتيوب.
في أكتوبر 2024، نشرت قناة على يوتيوب تُدعى "KH Studio" فيديو بعنوان "Squid Game: Season 2 Trailer" (لعبة الحبار: الموسم الثاني)، يظهر فيه الممثل ليوناردو دي كابريو كعقل مُدبر يقف خلف نسخة جديدة من لعبة الحبار الدموية. المقطع تم إعداده بدقة؛ إذ جمع بين لقطات أصلية من المسلسل ولقطات جديدة مولدة بالذكاء الاصطناعي. حصد الإعلان المزيف على ملايين المُشاهدات، وتصدر تريندات تويتر أيامًا عديدة، وحصل أصحابه على مئات الآلاف من الدولارات.
نفس القناة صنعت إعلانًا لفيلم بوند جديد بطولة مارجو روبي في دور العميلة جيمي بوند، وحقق الإعلان مليون مشاهدة خلال شهرين.
مارجو روبي وباربي الشريرة!
لم تعجب فكرة انضمام دي كابريو جمهور مسلسل "Squid Game"، وانتشرت احتجاجاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي. تعرضت نتفليكس، منتجة المسلسل الأصلي، إلى هجوم عنيف، مما أثار دهشة الشبكة وتساءل كبار الموظفين بها: كيف انخدع الجمهور بإعلان مزيف لم نصدره على مواقعنا الرسمية؟ الإجابة أن الفيديو كان متقنًا للغاية، وظهر تحت عنوان مثير يؤكد أنه تسريب غير رسمي. في غابة البوستات والفيديوهات التي يغرق فيها المتصفحون يوميًا، لا يمكن التحقق من كل شيء بدقة؛ ولهذا يسهل نشر الشائعات ويقبل عليها الملايين. على العكس، لا تحظى بيانات النفي بنفس زخم وشعبية الإشاعة الأصلية. في النهاية، اضطرت نتفليكس إلى إصدار بيان رسمي ينفي استعانتها بليوناردو دي كابريو، وأكدت أن الإعلان "تزييف مضلل".
أثارت هذه الإعلانات حالة من الجدل بين أصحاب هذه الفيديوهات واستديوهات السينما والنقاد والقانونيين. من ناحية، يرى صناع الفيديوهات أنهم ليسوا قراصنة أعادوا نشر أعمال حقيقية بدون تصريح، بل استلهموا أعمالًا فنية محبوبة، وقاموا بصياغتها بصورة مبتكرة. الأمر لا يزيد عن فيديو قصير يحترم العمل الأصلي ويضيف إلى خيال هوليوود أفكار فئة من الجمهور. لكن الاستديوهات تُصر على أن ما يحدث سطو على إبداع مملوك لها، وأن هذه القنوات تقوم بخداع الجمهور وتضليله.
في مقابلة مع "Deadline"، دافع مؤسس "KH Studio" عن عمله، مؤكدًا أن هدفهم أبعد ما يكون عن الخداع والتضليل، بل هم عشاق للسينما لديهم خيال وشغف لاستكشاف عوالم غير مسبوقة في حكايات شخصياتهم المفضلة على طريقة "ماذا لو؟". تعليقات الجمهور على هذه الفيديوهات تؤكد أن الجمهور استمتع برؤية هنري كافيل في نسخة سوبرمان الجديدة أو في شخصية جيمس بوند، وجذبتهم شخصية مارجو روبي الشريرة في فيلم "Barbie 2" (باربي 2)، وأعجبتهم فكرة فيلم "Friends: The Movie" (الأصدقاء: الفيلم)؛ إذ يفكر الأصدقاء جوي ومونيكا وروس وراشيل وفيبي، بعد تجمعهم الثاني، بشراء الحانة الشهيرة من المسلسل وإدارتها معًا.
يرى أصحاب هذا النوع من القنوات أن أعمالهم فن وليست جريمة. يتجرأ مؤسس قناة "KH Studio" حينما يؤكد أنه وزملاؤه رواد ثورة جديدة وليسوا مجرد قراصنة. إنه تصريح صادم، لكنه يحمل بالفعل جزءًا من الحقيقة؛ فتطور أدوات الذكاء الاصطناعي وإتاحتها للجميع غيرت قواعد احتكار الاستديوهات الكبيرة لصناعة أفلام خيالية ملحمية، وهذا أمر يتجاوز معركة حقوق الملكية الفكرية.
العيال كبرت بنسخة بيكسار!
لا يزال جدل الابتكار الأصلي وحقوق الملكية الفكرية قائمًا بلا حسم بين المبتكرين وصناع المحتوى، وداخل أروقة المحاكم أيضًا. تعتمد نماذج الذكاء الاصطناعي على التدريب على مجموعة هائلة من الصور والمواد النصية الأصلية التي تنتمي لمصورين ورسامين وكتاب، ويعيد الذكاء الاصطناعي إنتاج هذه المواد الفنية بتنويعات تعتمد على الأصل بشكل كبير. يستطيع أي شخص توليد صورة معاصرة بفكرة مبتكرة بأسلوب مايكل أنجلو، أو إنتاج فيديو بفكرة أصيلة تدور في عوالم فضائية بأسلوب ويس أندرسون، أو كتابة قصة من وحي صراع الإنسان والروبوتات في المستقبل بأسلوب نجيب محفوظ. هناك معطيات جديدة حول حقوق وأخلاقيات النشر، وطبيعة الفن وأصالته. ما يحدث غير مسبوق ولا تحكمه قوانين حتى الآن.
تتجاوز المسألة الحدود الواضحة حينما يسطو الذكاء الاصطناعي على الأسلوب؛ فيستطيع أي مشترك في ChatGPT تحويل صوره الخاصة إلى رسوم ثلاثية الأبعاد تبدو كأنها مرسومة داخل استديو ديزني أو بيكسار. يمكن عن طريق نماذج التحريك بالذكاء الاصطناعي مثل Deepfake وSora تحريك هذه الصور وإنطاقها بأي حوار. لا بد أن بعض قراء هذا المقال قد صادفوا على السوشيال ميديا مقاطع فيديوهات من مسرحيات "العيال كبرت" و"مدرسة المشاغبين" وأفلام "الناظر" وغيرها، كلها مرسومة بأسلوب بيكسار وبنفس أصوات الممثلين. لا يملك المتفرج سوى الإعجاب بالفيديو الطريف، وهذا لا يلغي الإعجاب بالأصل.
هذه الفيديوهات لم تُصنع في استديوهات بيكسار، بل صنعها هواة مصريون، وشاهدها عشرات الآلاف بفضول وإعجاب. يمكن صنع المزيد منها بأساليب فنية عديدة مثل حكايات ديزني الخيالية، ودمى عالم سمسم، وأفلام استديو جيبلي الياباني، ورسوم سبونج بوب.
البعض يرد بأن هوليوود نفسها تعتمد على تراث السينما والفن كمرجعية لإنتاج أعمالها الجديدة. يرى أصحاب هذه النظرية أن الفن لا يُستحدث تمامًا، وأن كل عمل فني له مرجعياته، وهي غالبًا أعمال فنية أخرى بالإضافة إلى الواقع وخيال الفنان. هذه نظرية مقبولة من حيث المنطق، لكنها قياس خاطئ في كثير من الحالات؛ لا يمكن مثلًا اعتبار تقليد أسلوب رسام الأنيمي الياباني هاياو ميازاكي نوعًا من الاستلهام المشروع، بل هو استباحة وقحة لبصمة الفنان الشخصية.
هوليوود وسياسة الوجهين
الحرب المعلنة من هوليوود ضد هذه القنوات هي ما نراه على السطح، لكن استديوهات السينما هناك تدرك أن القادم مخيف، وأن طوفان تحديثات الذكاء الاصطناعي لن يتوقف عن تسهيل صناعة الأفلام المتقنة. ستتواجد خلال السنوات القادمة سوق موازية لإنتاج أفلام مستقلة بالذكاء الاصطناعي، ولن تكون بالضرورة تقليدًا لأفلام مشهورة.
هناك تسريبات عرضتها بعض المواقع الإخبارية تؤكد أن هوليوود تدرك أن معركتها مع المواقع التي تقدم نسخًا جديدة من وحي أفلامها خاسرة. لهذا، قررت محاربتها علنًا والاستفادة منها ماديًا سرًا. يؤكد تسريب لموقع "Deadline" أن بعض استديوهات هوليوود مثل "Warner Bros. Discovery" (وارنر بروس ديسكفري) و"Sony Pictures" (سوني بيكتشرز) طلبت من موقع يوتيوب نسبة 30% من أرباح الإعلانات التي تحققها الفيديوهات التي تستخدم أفكار أفلامها أو تنتج مقاطع معدلة منها، تعويضًا عن تلك "الانتهاكات". امتنعت تلك الاستديوهات عن التعليق على هذه الوثائق، التي لو صحت، فإن ذلك يعني أن هوليوود تعمل بنظرية: "إذا لم تستطع هزيمتهم، انضم إليهم".
جميع الإعلانات والصور المرفقة مصنوعة بتقنية الذكاء الصناعي