مسلسل Black Mirror

في الموسم السابع من مسلسل "Black Mirror".. الكابوس الرقمي يُطاردنا في مرآة الواقع

إيهاب التركي
29 أبريل 2025

منذ انطلاقته، كان "Black Mirror" يركز على التكنولوجيا كأداة تكشف عن عيوب البشرية، سواء من خلال قضايا الخصوصية، الاستهلاكية، أو التلاعب بالوعي. هذا الموسم، الذي يضم ست حلقات جديدة، ليس مجرد استكشاف للمستقبل القريب، بل هو رحلة نفسية عميقة تكشف كيف يُمكن أن تتحول التكنولوجيا إلى وسيلة داعمة تبث السلام النفسي أو كابوس رقمي يطاردنا، الحلقات تمزج بين الميلودراما العاطفية، الكوميديا السوداء الساخرة، والرعب النفسي. الحلقات لا تعتمد فقط على أفكار مستقبلية خيالية مُبهرة، بل تضيف طبقة من الرعب النفسي الذي يجعل التكنولوجيا تبدو أحيانًا ككيان خارق للطبيعة، شبيه بالأشباح أو الشياطين التي كانت تطارد الأبطال في قصص الرعب التقليدية.

الرومانسية الرقمية في القاهرة!

تبرز حلقتا "Hôtel Reverie" و"Eulogy" كيف يمكن للتكنولوجيا أن تكون وسيلة للخلاص العاطفي وإعادة الاعتبار للمشاعر التي شوهتها ظروف الواقع القاسية. في "Hôtel Reverie"، تدخل براندي (إيسا راي) عالمًا رقميًا لإعادة إنتاج فيلم كلاسيكي، تدور أحداثه في فُندق بالقاهرة في بدايات القرن العشرين، حيث تلتقي بكلارا (إيما كورين)، نجمة هوليوودية أُعيد إحياؤها عبر الذكاء الاصطناعي. ما يبدأ كتجربة فنية يتحول إلى قصة حب تجاوزت الحدود الزمنية، حيث تتيح التكنولوجيا للمشاعر الحقيقية أن تزدهر في فضاء وهمي. التصوير بالأبيض والأسود يضفي طابعًا رومانسيًا، بينما أداء راي وكورين يجعل العلاقة نابضة بالحياة. لكن التكنولوجيا هنا تتجاوز دور الجسر العاطفي، فهي تُحاصر كلارا في وعيها المصطنع، مما يؤدي إلى فقدان الحدود بين الواقع والخيال، ويضع براندي أمام معضلة أخلاقية حول قيمة الحياة الرقمية. العلاقة المعقدة بينهما تُذكرنا بفيلم "Her"، حيث تُجسد كلارا فكرة ارتباط البشر بشخصيات وهمية، مما يطرح تساؤلات عميقة عن طبيعة الحب والوجود. أما في "Eulogy"، فيستخدم فيليب (بول جياماتي) تقنية لاستعادة ذكريات حبه القديم، مما يجبره على مواجهة أخطائه واستعادة سلام داخلي. التكنولوجيا هنا مرآة تعكس ألمه وأمله، مع إضاءة هادئة وموسيقى حزينة تبرز الحنين، وأداء جياماتي ينقل ندمه بصدق. لكن هذه الأداة تتحول إلى سلاح عاطفي، إذ تُسيطر على ذكرياته وتُفقده سلامه الداخلي بمواجهته لأنانيته التي دمرت علاقته. في الحلقتين، التطور الرقمي يصبح جسرًا لاستعادة العواطف المفقودة، لكنه في الوقت ذاته يُظهر قدرته على السيطرة على المشاعر والذكريات، مُعرضًا الشخصيات لفقدان جزء من إنسانيتها.

الرومانسية الرقمية في القاهرة!
الرومانسية الرقمية في القاهرة!

ألعاب العنف والهوس

تتناول حلقتا "USS Callister: Into Infinity" و"Plaything" كيف يمكن للتطور الرقمي أن يغذي العنف والهوس، مع الحفاظ على رؤية متوازنة. في "USS Callister: Into Infinity"، تقود نانيت (كريستين ميليوتي) طاقمها الرقمي ضد لاعبين حقيقيين في لعبة "إنفينيتي"، حيث يعاملونهم كبيانات قابلة للإزالة. التكنولوجيا تصبح ساحة معركة نفسية، مع مؤثرات بصرية ديناميكية تبرز التوتر، وأداء ميليوتي يكشف صراع شخصية رقمية تسعى للبقاء. هنا، تُستخدم التكنولوجيا للسيطرة على الشخصيات الرقمية، مما يؤدي إلى فقدان هويتهم، حيث يواجه الطاقم خطر الزوال، مُحولًا اللعبة إلى حرب وجودية تُهدد كيانهم. الحلقة تمزج بين الإثارة والكوميديا السوداء، مع لحظات تأملية حول قيمة الوجود الرقمي. أما في "Plaything"، فيظهر كاميرون (بيتر كابالدي) كرجل مهووس بلعبة يعتقد أن شخصياتها واعية، مما يحول التكنولوجيا إلى كابوس شخصي. التصميم البسيط للمشاهد يعزز عزلته، وأداء كابالدي يمزج بين الغرابة والعمق، داعيًا للتفكير في حدود الواقع. التكنولوجيا هنا تُسيطر على عقله، مُطمسة الحدود بين الواقع والوهم، ومُسببة فقدان التمييز بينهما، حيث يصبح هوسه باللعبة سجنًا نفسيًا يُهدد استقراره العقلي. الحلقتان تظهران التطور الرقمي كقوة تكشف الجوانب المظلمة للإنسان، مثل العنف والهوس، دون حكم قاطع، بل كمرآة تعكس علاقتنا المعقدة بالعوالم الافتراضية، حيث تتحول التكنولوجيا إلى أداة سيطرة تُفقد الشخصيات حريتها وواقعها.

ألعاب العنف والهوس
ألعاب العنف والهوس

وحوش خلف الشاشة

في "Bête Noire" و"Common People"، يبرز الموسم السابع التطور الرقمي كأداة تتحول إلى وحش بغرض الانتقام أو جني المال. في "Bête Noire"، تستخدم فيريتي (روزي ماكإيوين) تقنية للتلاعب بواقع ماريا (سيينا كيلي) انتقامًا منها، محولة حياتها إلى كابوس. التكنولوجيا هنا سلاح نفسي، مع إيقاع متسارع وموسيقى مقلقة تزيد التوتر، وأداء كيلي يجسد الانهيار ببراعة. فيريتي تُحرك الأحداث بـ"ريموت" متصل بكمبيوتر عملاق، مما يُفقد ماريا السيطرة على حياتها، ويدفعها إلى حافة الجنون. الفكرة مثيرة، لكنها تفتقر إلى بناء أكثر إقناعًا—كيف يمكن لجهاز واحد أن يتحكم في الواقع دون مقاومة؟—لكن الحلقة تتفوق في تصوير العجز أمام قوة رقمية غير مرئية، مُظهرة التكنولوجيا كشبح يطارد ماريا عبر ذكرياتها وأخطائها. أما في "Common People"، فتستغل تقنية "ريفرمايند" ضعف أماندا (رشيدة جونز) ومايك (كريس أوداو)، محولة حياتهما إلى سلعة تجارية. التكنولوجيا تصبح قوة رأسمالية بلا رحمة، مع إضاءة خافتة تبرز العجز، وأداء جونز وأوداو ينقل يأسهما بصدق. التقنية، التي تُقدمها غاينور (تريسي إليس روس)، تَعِد بإنقاذ أماندا المريضة عبر نقل وعيها إلى سحابة رقمية، لكن باشتراكات باهظة تُحولها إلى سجن رقمي، مُفقدة إياها حريتها وخصوصيتها، حيث تُجبر على بث إعلانات منطوقة دون وعي. الحلقة تكشف ثقافة استغلال المشتركين بأسلوب ميلودرامي مؤلم، حيث تُسخر التكنولوجيا من الضعف الإنساني. الحلقتان تظهران التطور الرقمي كوحش يخدم أهدافًا أنانية، دون شيطنة مبالغة، بل كتحذير من سوء استخدامه، مع معالجة فنية تبرز الصراع بين التقدم والإنسانية، وتُظهر كيف تُحول التكنولوجيا الواقع إلى كابوس يُفقد الشخصيات سيطرتهم وحريتهم.

وحوش خلف الشاشة
وحوش خلف الشاشة

المشاعر الإصطناعية

ما يميز الموسم السابع هو قدرته على المزج بين الميلودراما والكوميديا السوداء بأسلوب يلامس الروح. في "Common People"، الميلودراما تتجلى في تصوير معاناة أماندا ومايك، حيث يتحول حلمهما بالنجاة إلى كابوس رقمي. هناك لحظات تُظهر أماندا وهي تُجبر على بث إعلانات تجارية أثناء حديثها مع زوجها—لكن الكوميديا السوداء تتسلل عندما نرى التناقض المُضحك المؤلم بين الإعلانات المبهجة والواقع المأساوي. هذا التناقض يُبرز سخرية العصر الرقمي: كيف أصبحت حياتنا سلعة تُباع باسم "التقدم".

Black Mirror
مسلسل Black Mirror

 "Hôtel Reverie" تتألق بميلودراما رومانسية تُثير التساؤلات الفلسفية. العلاقة بين براندي وكلارا ليست مجرد قصة حب، بل استكشاف لمعنى الحب نفسه: هل يمكن أن نحب كيانًا رقميًا؟ الحلقة تُظهر التكنولوجيا كقوة تُحيي المشاعر وتُدمرها في الوقت نفسه، مما يجعلها تجربة عاطفية مُربكة.

في "Plaything"، هوس كاميرون بلعبته يُقدم بأسلوب ساخر يجعلنا نضحك على جنونه، لكن هذا الضحك يتحول إلى تأمل عميق: هل نحن أيضًا مهووسون بعوالمنا الرقمية؟ الحلقة تُظهر التكنولوجيا كمرآة تعكس ضعفنا، مُحولة هوسنا إلى كابوس نفسي يطاردنا من خلال أوهامنا.

المشاعر الإصطناعية
المشاعر الإصطناعية

 "Eulogy" تُركز على الميلودراما بشكل خالص، حيث يواجه فيليب ألمه وفقدانه بمساعدة التكنولوجيا. الحلقة تُبرز الجانب الإنساني للكابوس الرقمي: ليس الرعب في التكنولوجيا نفسها، بل في قدرتها على استحضار أعمق مخاوفنا وآلامنا. هناك لحظات تكاد تُبكيك، مثل تلك التي يُعيد فيها فيليب ذكرياته، ليكتشف كم كان أنانيًا في الماضي.

نجوم المرآة السوداء

أداء الممثلين في الموسم السابع يُعد أحد أقوى عناصره. رشيدة جونز في "Common People" تُقدم أداءً يجمع بين الهشاشة والقوة، حيث تُظهر أماندا كامرأة تُحارب من أجل حياتها وحبها، لكنها تُهزم ببطء أمام قوة التكنولوجيا. كريس أوداو يُضيف لمسة من الدفء بدور مايك، لكنه يُبرز أيضًا اليأس الذي يُسيطر عليه تدريجيًا.

سيينا كيلي في "Bête Noire" تُقدم أداءً مكثفًا، حيث تُظهر ماريا كامرأة تُحاصرها أخطاؤها القديمة. تعابيرها المشحونة بالخوف والشك تُبرز الجانب النفسي للشخصية، مما يجعلنا نتعاطف معها رغم أخطائها. روزي ماكإيوين بدور فيريتي تُضيف طبقة من الغموض، مما يجعل شخصيتها مرعبة ومثيرة للاهتمام في الوقت نفسه.

إيسا راي في "Hôtel Reverie" تتألق بدور براندي، حيث تُظهر مزيجًا من الثقة والضعف. علاقتها مع إيما كورين، التي تُقدم أداءً رائعًا بدور كلارا، مليئة بالكيمياء، مما يجعل المشاهد يشعر بالحب والقلق في الوقت نفسه. إيما كورين تُضيف لمسة كلاسيكية لشخصيتها، لكنها تُظهر أيضًا عمقًا عاطفيًا يجعلنا نتساءل عن طبيعة وجودها.

نجوم المرآة السوداء
نجوم المرآة السوداء

بيتر كابالدي في "Plaything" يُقدم أداءً يجمع بين الغرابة والمصداقية، حيث يُظهر كاميرون كرجل مُهووس لكنه صادق في إيمانه. تعابيره المُربكة تُبرز الجانب النفسي للشخصية، مما يجعلنا نتساءل عن حقيقة أوهامه.

بول جياماتي في "Eulogy" يُقدم أداءً استثنائيًا يُعد الأفضل في الموسم. دوره كفيليب مليء بالحساسية والعمق، حيث يُظهر الندم والحزن بصدق مؤثر. هناك لحظات تُظهر تعابير وجهه ألمًا عميقًا، مما يجعلنا نشعر بكل لحظة من معاناته.

كريستين ميليوتي في "USS Callister: Into Infinity" تُقدم أداءً قويًا بدور نانيت، حيث تُظهر مزيجًا من القوة والضعف. قدرتها على قيادة الطاقم مع الحفاظ على عمق عاطفي تُبرز موهبتها الكبيرة.

تجربة تأملية

يقدم الموسم السابع تجربة تأملية تتجاوز الخيال العلمي إلى استكشاف أعماق النفس البشرية. الميلودراما العاطفية والكوميديا السوداء تُضيفان طبقة من العمق، بينما العناصر الفنية تُعزز الرؤية النفسية بطريقة مبهرة. رغم بعض الثغرات، كتلك في حبكة نهاية أحداث حلقة  "Bête Noire"  التي كانت تحتاج إلى بناء أكثر إقناعًا، إلا أن الحلقات ككل تُقدم مزيجًا متوازنًا من الرعب والتأمل العاطفي. "Eulogy"  و"Common People"  هما الأبرز بسبب قوتهما العاطفية، بينما "Hôtel Reverie" تُثير أسئلة فلسفية عميقة تجعلنا نُعيد التفكير في علاقتنا بالتكنولوجيا. هذا الموسم هو مرآة سوداء تعكس أعمق مخاوفنا، مُذكرًا إيانا بأن التكنولوجيا، رغم كل تقدمها، قد تكون الشبح الأكثر رعبًا الذي يطاردنا في عصرنا الحديث.

الصور من حسابات المسلسل على السوشيال ميديا.