صيف الفنون في فيينا.. موسيقى، معارض، ومزادات
في فيينا، يعلن فصل الصيف وصوله مع شمسه الساطعة وسط صفاء السماء الزرقاء، مضيئًا ألوان الطبيعة في إحدى المدن الأكثر خضارًا في العالم، ومعززًا فخامة المباني الإمبريالية والمعالم التاريخية المنتشرة في كل مكان. وحالما يميل طقس فيينا إلى الدفء، تترصع أرصفة شوارعها بالمقاهي الخارجية، التي تعدّ جزءًا لا يتجزأ من التقاليد الفيينية الصيفية، خصوصًا في هذه المدينة التي تُعتبر ثقافة القهوة فيها من الأقوى في العالم. ويتوجّه سكّان عاصمة النمسا وزوّارها إلى ضفاف نهر الدانوب للاسترخاء والسباحة وركوب القوارب وممارسة رياضات مائية مختلفة، وإلى الأسواق الشعبية المفتوحة والمليئة بالفواكه والتوابل والأزهار والحلويات، وأيضًا إلى الأحياء السكنية الشعبية المتنوعة بملامحها المعمارية وثقافاتها وأجوائها ومطاعمها ومتاجرها، وطبعًا ناسها! ولأن الصيف هو الوقت الأفضل للخروج في الهواء الطلق، تقدّم المدينة برنامجًا حافلًا من الفعاليات الثقافية والمهرجانات والحفلات الموسيقية والمعارض الفنّية التي تجري خارجًا.
إيقاع الليل
للمهتمّين بالفعاليات الثقافية، برنامج ترفيهي وفنّي مكثّف في الأشهر التالية، وتجري معظم أحداثه في الهواء الطلق خلال ليالي الصيف الدافئة، من مهرجانات الأفلام إلى عروض الأوبرا والحفلات الموسيقية. أوّلها مهرجان الفيلم الموسيقي، وهو حدث أيقوني سنوي تتراوح نغماته بين الأوبرا والكلاسيكية والبوب والروك ويستقبل ضيوفه مجّانًا طوال الصيف، مع بثّ مباشر استثنائي هذا العام لبعض مباريات كرة القدم من بطولة أمم أوروبا 2024. هكذا، وعلى مدى أكثر من شهرين، تتحوّل ساحة مقرّ بلدية فيينا إلى ملتقى حيوي لعشاق الموسيقى والأفلام وحتى الطعام اللذيذ!
وسيصعد حوالي ألفي فنّان على مسرح مهرجان مجّاني آخر بعنوان Kultursommer Wien في مواقع مختلفة حول وسط المدينة وصولًا إلى ضواحيها، ليقدّموا حفلات موسيقية من نوع روك وبوب وجاز وغيرها، وعروض رقص ومسرح وأدب وسيرك ودمى. وفي حدائق مبنى "بيلفيدير" التاريخي، أداء لأوبرا للعظيم "موزارت" على مدى عشر أمسيات في يوليو، دون أن ننسى عناوين السينما في الهواء الطلق التي تعرض في أرجاء المدينة أفلامًا من كل بلدان العالم، مع تركيز هذا العام على جرأة المرأة وقوّتها من خلال إلقاء الضوء على بطلات أفلام مستقلات وذكيات وجسورات.
تحية إلى الإبل
بمناسبة "عام الإبل" الذي أعلنته الجمعية العامة للأمم المتّحدة، ينظّم "المتحف العالمي فيينا" Weltmuseum Wien معرضًا ضخمًا بعنوان "على ظهر الجمال"On the Back of Camels مع سلسلة من الأعمال الفنية والتحف الحرفية والأفلام والصور التي تنظر إلى الجمال ودورها في ثقافات مختلفة بين الماضي والحاضر والمستقبل، وتستكشف العديد من أوجه التعايش مع الجمل العربي والجمل ذي السنامين واللاما والألبكة. تأتي القطع المعروضة في ستّ قاعات من مجموعة المتحف نفسه، مع العلم أن الكثير منها يُعرض للمرة الأولى علنًا، ومن مؤسسات أخرى أعارتها للمتحف خصيصًا لهذا الحدث. يمتد موضوع المعرض من حيوانات الإبل الأولى التي تطورت في أمريكا الشمالية، إلى طرق تدجينها وانتشارها في جميع أنحاء العالم، واستمرارها اليوم كماشية ساهمت في بقاء الإنسان؛ ويتعمّق في الفرص التي يتيحها الاستخدام المكثف للمنتجات المشتقة من الإبل في المسارات المستقبلية وتحديدًا لمواجهة تغير المناخ.
وفي هذا السياق، قام أيضا مبنى "معبد ثيسيوس" Theseus Temple الذي أنجز بناؤه في عام 1823 ويقع بالقرب من متحف "تاريخ الفنون" Kunsthistorisches Museum، باستقبال عمل فنّي تركيبي بعنوان "قد يكون هناك"There May Exist للفنانة المفاهيمية الإماراتية "زينب الهاشمي" التي تستخدم فراء الإبل وجلودها المصبوغة في منطقة العين الإماراتية وتركّبها على أسطح مختلفة لصياغة أشكال نحتية غير متوقعة، في تلميح إلى تكيّف البشر والإبل معًا ضمن بيئاتهم، والصلة بين التقدّم والانحدار. وينظر هذا العمل، المعروض في فيينا لغاية 13 أكتوبر 2024، إلى الدور المتغير للإبل في شبه الجزيرة العربية مع ازدهار الاقتصاد النفطي، إذ يدرس كيف غيّرت فورة الاقتصاد النفطي الثقافة الإقليمية والأهمية المحلّية للجمل بعد أن كان ذات يوم مصدرًا رئيسيًا لكسب الزرق ووسيلة للنقل والعبور والتجارة ومحورًا ثقافيًا.
وتقول "الهاشمي"، التي تحبّ الجمع في أعمالها بين التاريخين الطبيعي والثقافي: "أغوص في التحول العميق الذي اجتاح الإمارات العربية المتحدة منذ ظهور النفط. ينبثق من قلب الهرم نسيج مدهش يغلف براميل النفط، وهو نسيج يذكّرنا بجلد الإبل المتصلب من سلالات مختلفة في المنطقة - في تمثيل للتغيير، مستوحى من التحول الهائل الذي أعقب اكتشاف النفط. إن شكل الهرم في حد ذاته هو تحية إلى التقدم، وهو مصنوع من الأوعية ذاتها التي دفعت الإمارات العربية المتحدة إلى الحداثة". تحضّ منحوتات جلد الإبل كل من يراها على التفكير في العلاقة الديناميكية بين الماضي والحاضر، بنقاشها البصري حول التراث الثقافي الغني لمنطقة الخليج العربي والبحث المستمر عن الهوية في وجه التحول الصناعي.
ومن الجدير بالذكر أن "معبد ثيسيوس"، الذي يحتضن "قد يكون هناك" للفنانة "زينب الهاشمي"، بُني في الأساس لاحتواء عمل فنّي واحد، وهو رائعة الرخام الأبيض "ثيسيوس يذبح القنطور" للنحات "أنطونيو كانوفا"، وبقيت تلك المنحوتة واقفة وحيدة إلى أن نُقلت في عام 1890 إلى الدرج الضخم في متحف "تاريخ الفن" القريب منه، والذي يُعتبر أحد أهم المتاحف في العالم بفضل مجموعته الضخمة التي تمتد جذورها عبر الزمان والمكان والحضارات: من مصر القديمة إلى أواخر القرن الثامن عشر.
في حب الفن
تفتخر مدينة فيينا بإحدى أكبر وأقدم دور المزادات في العالم والأهم في منطقة أوروبا الوسطى، وهي دار "دوروثيوم"Dorotheum التي أسسها الامبراطور "يوزف" الأوّل قبل أكثر من 300 سنة، وتحديدًا في عام 1707. هذا المعلم العريق قطعة من تاريخ النمسا، وقد أُنجِز بناء موقعه الحالي المعروف باسم "قصر دوروثيوم" والمصمم بالطراز النيو-باروكي في عام 1901، حين افتتحه الامبراطور الشهير "فرانز يوزف" بنفسه. وسط أجواء من الأناقة الراقية، تستقبل صالات العرض الضخمة والصالونات الواسعة عشّاق الفنون وهواة جمع تحفها الآتين من كل أنحاء العالم، مقدّمة إليهم أكثر من 700 مزاد في العام و40 فئة مختلفة و100 خبير متخصص ومستعدّ للمساعدة والإرشاد. في رزنامة "دوروثيوم" السنوية، أربعة مواعيد أساسية هي أسابيع مزاداتها الرئيسة والتي تكون مكرّسة للفن المعاصر، والفن الحديث، ولوحات القرن التاسع عشر، ولوحات "الأسياد الكبار". وعلى مدار العام، تنظّم الدار كذلك مزادات خاصة ومختلفة المواضيع والفئات، مثل الساعات والمجوهرات، والفضّة، والزجاج، والخزف، والتصوير الفوتوغرافي، والأدوات العلمية التاريخية، والممتلكات الملكية والإمبريالية، والنقود المعدنية، والكتب، وغيرها.
لا تكتمل التجربة الفنّية في فيينا دون زيارة إلى قصر دوروثيوم، وربما المشاركة في أحد مزاداتها الاستثنائية بالفعل، ويمكنك زيارة الموقع الالكتروني الخاص بها للتحقق من جدول المزادات الآتية.