خاص "هي": REFIK ANADOL الفن والذكاء الاصطناعي.. والإبداع الرؤيوي
بين شوارع لوس أنجلوس المزدحمة، وسط تقارب الفن والتكنولوجيا، بنى الفنان التركي المولد "رفيق أناضول" REFIK ANADOL هوية فنية مبتكرة وفريدة في الاستوديو الخاص به.
رحلته إلى عالم "الهندسة المعمارية ما بعد الرقمية" تتحدّى المفاهيم التقليدية للمساحة والتصميم. وعبر إعادة تصور أدوار العناصر المعمارية، داخليا وخارجيا، يدعو المشاهدين لاستكشاف واقع بديل. نهجه يتخطى حدود الدمج ليحوّل جوهر الوسائط التكنولوجية إلى تجارب فنية وتصميمية غامرة. يتردد صدى فنّه خارج جدران مشغله الإبداعي إلى أماكن أبعد بكثير، وقد برز حضوره في المشهد الفنّي العالمي. فتُعرض أعماله في مجموعات مرموقة حول العالم: من "متحف الفن الحديث" في نيويورك إلى "متحف إسطنبول للفن الحديث" ، و"معرض فيكتوريا الوطني" في ملبورن. وشارك في فعاليات معروفة، مثل "بينالي البندقية للهندسة المعمارية" ، و" ترينالي معرض فيكتوريا الوطني" في أستراليا.
تستقطب معارض "أناضول" جماهير آتية من كل أنحاء العالم، وتأسر زوارها بدمجها المبتكر للفن والتكنولوجيا. وفي معارضه الأخيرة المقامة في عناوين مهمة مثل "كونستبالاست" في دوسلدورف ومركز "بومبيدو-متز"، نفهم حقا قدرة أعماله على جذب حشود آتية من كل حدب وصوب.
عبر السنين، أثبت "أناضول" المشهور بمساهماته الفنية الريادية تأثيره في تقاطع الفن والتكنولوجيا. وحاز مجموعة مدهشة من الجوائز والتقديرات، ونذكر منها جائزة "لورينزو إل مانييفيكو لإنجاز العمر لفن الوسائط الجديدة"، و"جائزة أفضل رؤية" من شركة "أبحاث مايكروسوفت". وفيما يواصل "رفيق أناضول" تغشية الخطوط الفاصلة بين الفن والتكنولوجيا، يعدنا نهجه الرؤيوي بصياغة مستقبل التعبير الفنّي في العصر الرقمي. مع كل مشروع جديد، يدعو المشاهدين إلى الانطلاق في رحلة تتجاوز قيود الفن التقليدي، إلى عالم لا يعرف فيه الخيال حدودا. التقيته في "سربنتاين غاليريز" SERPENTINE GALLERIES في لندن، حيث يقدّم أول معرض فردي كبير له ضمن مؤسسة فنية بارزة في المملكة المتحدة، ملقيا الضوء على الإمكانات الإبداعية للذكاء الاصطناعي، يحمل المعرض عنوان "أصداء الأرض.. أرشيف حيّ" ECHOES OF THE EARTH: LIVING ARCHIVE، ويحضن زوّاره في بيئات غامرة مبنية على سنوات من التجارب مع بيانات مرئية عن الشعاب المرجانية والغابات المطيرة.
تبتكر هذه الأعمال من مليارات الصور. وهذا يقودنا إلى نقطة مهمة للغاية، وهي التزويد الأخلاقي للصور. ما التحديات التي تواجهها لدى العمل مع مجموعات البيانات الضخمة؟
أريد تسليط الضوء على التزامنا بالبحث المستدام. هدفنا هو تجنب الاستخدام غير المسؤول للموارد الحاسوبية الموسعة التي قد تستنزف مصادر الطاقة في العالم. الجيّد أن شركاءنا في "منصة غوغل السحابية" قد طوّروا "أنابيب" لإمداد البيانات خاصة بنا، وأتاحوا لنا بذلك استخدام مصادر طاقة مستدامة. هناك تحدّ آخر يتمثل في إيجاد سبيل لشرح هذه الأنظمة المعقدة. وفي معارضنا، نحاول دائما مشاركة مصادر البيانات وأسماء الخوارزميات بشكل علني، لتوضيح جذورها وتبسيطها للجمهور.
هلا أخبرتنا عن عنصر الطبيعة هذا، وكيف شق طريقه إلى عملك وتطوّر مع الوقت؟
اهتمامي بفهم الطبيعة بدأ يسير في مسلك آخر، قبل نحو ثماني سنوات، حين عرّفتني شريكة حياتي والشريكة المؤسسة للاستوديو إلى الثقافة الأمازونية. عندها أدركت روعة غابة الأمازون وأهميتها، وقد أطلق هذا الاكتشاف في نفسي شرارة اهتمام دائم بديناميكيات حركة الطبيعة. أقوم منذ عام 2010 باستكشاف الحركات الموجودة في الطبيعة، وإنشاء نماذج محاكاة أو ما أحب أن أسميه "صبغ البيانات" استنادا إلى المعلومات المتعلقة بأنماط المياه والريح والطقس. لكنني لم أتخيل يوما أنني سأستطيع في يوم من الأيام أن أفعل أكثر من ذلك بكثير. فشكّلت الجائحة تحديا فريدا: عندما لا نستطيع الذهاب إلى الطبيعة، هل يمكننا بدلا من ذلك إحضار الطبيعة إلى الداخل؟ بدأت أرشفة بيانات الطبيعة في عام ٢٠١٧، وقد جمعنا حتى الآن أكثر من أربعة مليارات صورة لنباتات وحيوانات.
بطريقة ما، يصبح العمل الفنّي كائنا حيّا. لذلك يمكننا القول إن أعمالك لن تكون يوما "مكتملة"، لأنها أنظمة ديناميكية معقدة في حالة تطور دائم. أخبرنا أكثر عن هذه الفكرة التي تنظر إلى العمل الفنّي على أنه كائن حي.
أعتقد أنه مفهوم ملهم حقا. أولا، إن رؤية البيانات على أنها أصباغ تفتح أبواب مساحة تصبح فيها القيود المادية أو "النيوتونية" في غير محلّها. فالبيانات حرّة تماما في حركتها وشكلها ولونها ونمطها. وثانيا، عندما أفكر في نماذج الذكاء الاصطناعي، ما أجده ملهما للغاية هو التساؤل حول ما سيحدث في حال طوّر هذا العمل الفني الحي تجاوبا أو ردّا. ماذا سيحدث إذا كان العمل الفني قادرا على سماعنا والإحساس أو الشعور بنا؟ ومن خلال مبادرة "نموذج الطبيعة الكبير" LARGE NATURE MODEL ، نستكشف إمكانية تحويل هذه الأعمال الفنية الحية إلى بيئات. أعمل في مجال الهندسة المعمارية المتعددة الوسائط منذ عام ٢٠٠٨، فأحوّل واجهات المباني إلى لوحات فنية، مستلهما من كبار المهندسين المعماريين مثل "زها حديد"، و"تاداو أندو"، و" فرانك غيري"، و"غاودي". مع الذكاء الاصطناعي، تقدّمت فكرة الهندسة المعمارية الحية بشكل كبير لأن النماذج التي ننشئها تستطيع تمثيل الأجسام الحية.
من خلال عملك الجديد "أرشيف حي.. الطبيعة" LIVING ARCHIVE: NATURE، الذي يلف جدران غاليري "سبرنتين" الشمالي SERPENTINE NORTH بتخيلات الذكاء الاصطناعي للغابات المطيرة، تبني بيئة غامرة يلتقي فيها الفن بالتكنولوجيا والعلم. هي تجربة لا يمكننا عيشها أمام الكمبيوتر، بل يجب أن نختبرها داخل متحف. ما هو هدفك؟
حلمنا هو مساعدة زوار المعرض على فهم دور البيانات في عوالمنا، وهو دور مذهل على الرغم من أنه غير مرئي. أعتقد أن الزائر سيشعر بأنه محاط بالبيانات وغنى المعلومات والجمال الساحر الموجود في الطبيعة. لا يهدف هذا المشروع إلى تقليد الطبيعة أو استبدالها، بل يركّز على تقدير الطبيعة وحبّها واحترامها. نحن لا نستبدل الطبيعة، بل نصونها. الذكاء الاصطناعي يعمل حاليا على مستوى متعدد الوسائط: الصوت والصورة والنص، ولكن أعتقد أن هناك طبقة أخرى. تلعب حواسنا، ولا سيما حاسة الشم، دورا مهما للغاية في بناء الذاكرة.
لو نظرنا إلى إمكانيات الذكاء الاصطناعي التوليدي في سرد هذه القصص الغامرة، لوصلنا إلى فكرة الفصول التي تقدّمها، وكأننا نقرأ فصول كتاب. هل هذا صحيح؟
نعم إن عملي متعدد الأبعاد، لكنه منظّم في فصول مختلفة، وهنا يكمن جماله. ما بدا لي شاعريا في فكرة "التفكير المنقسم إلى فصول" هو أنه يسرد كما قلتِ قصة متطورة. أشعر بأن مفهوم "الفصل" مشوّق جدا، وكأنه قصيدة حياة في الطبيعة، وأرشيف حي!
في 1903، ألّف "راينر ماريا ريلكه" كتابا صغيرا رائعا بعنوان "رسائل إلى فنّان شاب". ما نصيحتك إلى الفنانين الشباب اليوم؟
أول ما أريد قوله هو أن احتضان التكنولوجيا مهمّ للغاية، ولكن ما لا يقل أهمية عن ذلك هو ما نفعله مع التقنيات الجديدة وكيفية عملنا. علينا أن نفهم الأنظمة حتى نستطيع طرح أسئلة أفضل؛ وإن صُنعت الأنظمة مسبقا، ووُضعت أمامنا بكل بساطة، فقد يفتقر استفهامنا إلى العمق. ثانيا، أفهم زملائي الفنانين القلقين بشأن أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، وأشجعهم بشدة على التفاعل بنشاط مع بياناتهم ونماذجهم الخاصة. صار هذا الوسيط اليوم متاحا أكثر من أي وقت مضى أمام التجارب، وإذا تمكنوا من إجراء تجاربهم الخاصة وفهم سياق هذه النماذج، أعتقد أننا سنرى وحدة أقوى بكثير عبر مختلف التخصصات الإبداعية. أخيرا، أظنّ أن نزع هالة الغموض المحيطة بالذكاء الاصطناعي هي إحدى الطرق المشوّقة لاستخدام هذه الأدوات، وأقصد بذلك إظهار مصادر البيانات، وكيفية عمل هذا النظام. والأهم في ذلك، ألا ننسى أننا نقف جميعا "على أكتاف العمالقة". وكما نعتمد على المراجع في كل مجالات حياتنا، يجب أن نفعل الشيء نفسه في عملنا مع الذكاء الاصطناعي، فنتجنب الوقوع في مأزق الاعتماد المفرط على الأنظمة الذكية، وكأنها تمنحنا كل المعرفة في العالم.
يقول "غيرهارد ريختر" إن الفن أسمى أشكال الأمل. ما الفن بالنسبة إليك؟ وما الدور الذي يمكن للفن أن يؤدّيه في المراحل التالية؟
الفن بالنسبة إلي هو قدرة الجنس البشري على التخيّل. وأعتقد أن دوري في هذه الرحلة هو إنتاج فن يمكن للجميع الوصول إليه، بغض النظر عن السن أو الخلفية. ومع الذكاء الاصطناعي، لدي فرصة أكبر بكثير لإنشاء لغة عالمية للإنسانية. هدفي هو مواصلة نشر الإلهام والفرح والأمل من خلال عملي.