
خاص "هي": "شواهد الطين" بين الماضي والمستقبل في يوم التأسيس السعودي
بقلم الدكتورة خلود البقمي أستاذة مساعدة في فن النحت بقسم الفنون البصرية، جامعة الأميرة نورة
في عصر تتسابق فيه المدن نحو بناء ناطحات سحاب ضخمة تحجب الأفق، أصبح الإسمنت رمزا للتطور العمراني، محولا المدن إلى كتل إسمنتية متكدسة ومتكررة، تفصل حاضر تلك المدن عن ماضيها. ولكن في قلب هذا السباق العمراني برز موسم الدرعية ليُعيد للذائقة المعمارية طابعها الأصيل والفريد، عبر مهرجان "طين" الذي يمثل مساحة للتمعّن في فنون العمارة النجدية الأصيلة.
يعيد مهرجان "طين" الزوار إلى جذور العمارة الطينية التي لطالما كانت رمزا للهوية والثقافة السعودية، حيث تتعانق الأصالة مع الابتكار؛ ليبرز لنا "طين" جماليات البناء التقليدي الذي يعكس تناغم الإنسان مع بيئته، بما يحقق إعادة التوازن بين الماضي والحاضر بلغة تعبيرية تشبهنا، تعزّز فهمنا لتاريخنا، وتعظم ارتباطنا بهويتنا التي نفخر بها.
يــــأتي مـــهــرجـــان "طين" المقام في مـــوســـم الــدرعـــيــة تحــت شعــــــار "شواهـــد الطــــين بين الـــماضي والمــستـــقبـــــــل" ليسلط الضوء على إرث العمارة الطينية في الدرعية، ويفتح أفق التعاون والالتقاء بين المبدعين في مجالات الفنون والحرف والعمارة والتصميم، ويعيد النظر في ماهية الطين وأهميته وارتباطه بالإنسان والبيئة والأرض.
ومن خلال مشاركتي في الجلسة الحوارية "الطين بين الفنون والحِرف في المساحات الإبداعية"، وجدت فرصة نوعية للعودة للتجارب الإبداعية في مجال الفنون البصرية، ومن أبرزها الطين الذي يمثّل خامة أصيلة في تراثنا، وموضوعا خارج النطاق المألوف في شكله الوظيفي بمجالات الخزف والفخار وفن النحت، وصولا إلى مجالات الفن المعاصرة، كفن التجهيز في الفراغ، والفن الأدائي، وفنون المساحات العامة، إضافة لاستخدامات الطين في مجالات العلاج باعتباره وسيلة للتعبير عن الذات، وتخفيف التوتر والقلق، وتعزيز التواصل والتفاعل الاجتماعي.
ويختلف وجود الطين بحسب المجالات التي يستخدم فيها، ما بين جاف وسائل، وفقا لشكل المنتج النهائي وما تقتضيه طبيعة الأعمال المرادة منه، حيث يتنــــــوع ما بين اللين المحتفظ بلونه الطبيعي، إلى المعالج بطلاءات وأكاسيد مختلفة. ويتكون الطين أساسا من جسيمات صغيرة من الألومينا والسيليكا مرتبطة معا بالماء، كما تتعدد أنواعه أيضا وفقا للموقع الجغرافي الذي يعود له.
إن مــــادة الطين، من حيــــث الأصــل والنــشــــــأة، تتـــشــــاركـــــها جميع شعوب الأرض بمختلف أعراقها وعاداتها وتقاليدها، وعرفتها معظم الحــضارات الإنسانية عبر العصور والأزمان، ونجد الكثير من الشواهد والآثار التي تروي تفاصيل هذه القصة التي تشكّل واحدة من أبرز المشتركات الإنسانية على مر العصور.
يختـــــزل الطيـــــن في معـــنـــاه الأرض، والجــــذور، والبــــذور، والحنـــــين، والاحتواء، وأيضا الفناء، وهذا التضاد بين النمو والتلاشي يتجسد في انعكاسه على فكر وتجربة الفن البصري، فالإمـــكــانــــــات الفنية والتعبــــيــريـــــة والشكلية والتقنــــيــــة للطين تتـــــعدد وتتنوع ولا يمكن حصــــرها، بدءا من ذرات الرمال والتغــــيرات المـــاديـــــة التي تمر به، وصــولا إلى مــــراحــــل الصـــب والحــــرق والتــــــعرض لدرجــــات الحرارة العاليـــة، وكيف لتلك الذرات المتطايرة أن تتجمع لتصنع قوة الشكل وثباته، وتبدأ بالمرونة لتنتهي بالصلابة.
وانطـــــلاقا من كـــوني فــنـــانـــــة بصريـــــة ونحّــــــاتة حِرَفية، يمثل الطين بالنسبة لي نقطة الانطـــــلاق والتعبير، إذ يُعدّ الأبجدية التي أرتب عبرها أفكاري، وأجسد من خلالها المعاني والمشاعر التي أحملها بداخـــــلي، فهو الصـــديـــــق المخلص الذي يحـــمـــل المعـــــــنى بأصــلـــــه، ويترجـــمه على سطــــحه، عبر أثــــر تلك اليـــــــد التي ترسم ما بدا لعقل صاحبها عليه، وتتحدث بلسانه معه؛ لأنها منهُ وإليه. إنه الصديق الأصــــيل الذي يعود بي إلى أســـاس نشــــأتي وانطـــــلاقة أرضي ومهد أجدادي، من هنا، من الدرعية، من هذه الأرض!