الفنان السعودي عبدالله العثمان لـ"هي": كتاب "اللغة والمدينة" يصيغ الرياض كما تروى لا كما ترى

الفنان السعودي عبدالله العثمان لـ"هي": كتاب "اللغة والمدينة" يصيغ الرياض كما تروى لا كما ترى

رهف القنيبط
13 أبريل 2025

بين القصيدة والصورة، وبين اللغة والمكان، يتنقّل الفنان والشاعر السعودي عبدالله العثمان كمن يمشي بخفة على حواف الذاكرة. في عمله الجديد كتاب “اللغة والمدينة”، الذي صدر بدعم من مركز إثراء وبالتعاون مع صندوق التنمية الثقافية، يقدّم العثمان تأملًا بصريًا وسرديًا في وجه الرياض المتحوّل، وفي الأثر الذي تتركه الكلمات على جدران المدن. كتابٌ ليس بحثًا أكاديميًا بقدر ما هو محادثة حميمية مع مدينة تتغيّر كل يوم، وقراءة في شيفراتها التي لا تُقال.

في بداياته الإبداعية، كانت الرياض مهدًا للتكوين والتعبير، يقول العثمان لـ"هي": "وُلدت في الرياض، وما زلت أعيش وأعمل فيها. أتنقّل بين الشعر والفن المفاهيمي، وأسعى عبرهما لصناعة مساحات تعبير تتجاوز الوسيط الواحد. 

ويكمل:" أبحث عن الفن في الهشاشة، في آثار الرياح على الرمل، وفي القصص التي لا تُقال. أعمالي تتراوح بين النصوص، الفيديو، التثبيتات، والتدخلات العامة – لكنها تنبع من نقطة واحدة: الرغبة في تحويل التجربة الشخصية إلى سؤال مفتوح".

كتاب اللغة والمدينة
يقول العثمان: "كنت أحاول أن أقرأ تغيّراتها كأنها فصول رواية. ومن هذا الحوار نشأ المشروع: مدينة تروي، ولغة تكتب، وأنا بينهما أُصغي".

وكنتيجة لذلك تراكمت فكرة “اللغة والمدينة” داخل العثمان قبل أن تتجسّد على الورق، يوضح ذلك قائلاً: "فكرة كتاب اللغة والمدينة لم تأتِ بلحظة إلهام مفاجئة، بل تراكمت داخلي على مدى سنوات. كنت أتمشى في الرياض كثيرًا، أحاول أن أقرأ تغيّراتها كأنها فصول رواية. المدينة كانت تتكلم أوّلًا – بشوارعها، بلافتاتها، بأصواتها. ثم جاءت اللغة تُفسّر وتُعلّق. ومن هذا الحوار نشأ المشروع: مدينة تروي، ولغة تكتب، وأنا بينهما أُصغي".

يُعيد الكتاب تشكيل ذاكرة المدينة، ويقترح ذاكرة بديلة لمستقبلها، وعن ذلك يعبر عبدالله العثمان قائلًا: "أردت للكتاب أن يُعيد تشكيل الذاكرة، لا أن يحنّ لها فقط. استعَدنا صورًا من أرشيفات قديمة، لكننا في الوقت نفسه كتبنا ذاكرة جديدة، تنظر إلى الأمام. فالذاكرة، كما أراها، ليست مجرد تذكّر، بل خيال. ليست ثابتة، بل تتغيّر مع المدينة. وهذا ما حاولت فعله: إنتاج اقتراح بصري ونصي لذاكرة بديلة".

 كتاب اللغة والمدينة
يوضح عبدالله: "لم أكتفِ بوصف الرياض، بل حاولت تفكيك البنية التعبيرية كيف تتنفس؟ كيف تصمت؟ كيف تقول أشياء لا تُقال؟"

في لبّ هذا المشروع الفني والفكري، تداخل اللغة واللوحة والمدينة، يفسّر العثمان قائلاً: "بالنسبة لي، هذه العناصر ليست منفصلة. المدينة بناء لغوي وزمني، واللغة تشكيل، واللوحة لا تنقل بقدر ما تعيد تأليف الواقع. كنت أرى كل صورة كأنها جملة، وكل جملة كأنها نافذة على مشهد حضري. في الكتاب، لم أكتفِ بوصف الرياض، بل حاولت تفكيك البنية التعبيرية فيها: كيف تتنفس؟ كيف تصمت؟ كيف تقول أشياء لا تُقال؟" 

وفي كتاب“اللغة والمدينة” جاءت البنية البصرية كأداة سردية موازية، حيث يقول العثمان لـ"هي": " تعاملت مع الصور في الكتاب ككائنات سردية لها نبضها وإيقاعها. كنت أُفكّكها بصريًا، أبحث عمّا تقوله خارج إطارها. وفي المقابل، رتبت النصوص بحيث تتجاور مع الصور دون أن تشرحها، بل تتآلف معها. كان الهدف أن يتداخل النص والصورة، لا أن يتنافسا".

وبما أن الهدف هو التداخل لا التنافس، جاء اختيار الصور تحديًا فنيًا ورؤيويًا امتد على سنوات. يشرح العثمان ذلك: "كان اختيار الصور من أصعب المراحل. لم أبحث عن الجمال السطحي، بل عن الصور التي تحمل معنى، التي تفتح بابًا للأسئلة. تعاونت مع مصورين مختلفين، وكان من المهم أن أترك لكل منهم رؤيته. الصورة في الكتاب بوصلة. وأحيانًا، تقول ما لا يقدر عليه النص".

كتاب اللغة والمدينة
يوضح عبدالله: "استعَدنا صورًا من أرشيفات قديمة، لكننا في الوقت نفسه كتبنا ذاكرة جديدة"

وهذا يوضح كيف أن الرياض، بالنسبة للعثمان أكثر من مكان؛ يمكن القول أنها مرايا داخلية، حيث يوضح ذلك قائلاً: "ليست مجرد مدينة أعيش فيها، بل مدينة تعيد تشكيل ملامحي باستمرار. فيها التناقض، الذاكرة، الصمت، والضجيج. الرياض غيّرتني كإنسان وكفنان؛ دفعتني لأكون أكثر انتباهًا، لأبحث عن المعنى في ما يُهمَل عادة. منحتني مشهدًا حيًا للتغيّر، وسؤالًا دائمًا: كيف نكتب عن مدينة ونحن ما زلنا نعيش داخلها؟".

بين الأكاديمية والذاتية، واجه المشروع تحديًا في تصنيفه وشكله، يعترف العثمان قائلاً: "التحدي الأكبر كان المزج بين البحث الأكاديمي والتجربة الفنية دون أن يُفقد أحدهما الآخر روحه. لم أكن أريد كتابًا يُقرأ بعين واحدة. التحدي كان في إيجاد الإيقاع، في ترتيب الفصول، في إقناع الجهات بالمشاركة، وفي الحفاظ على توازن دقيق بين النص والصورة".

كتاب “اللغة والمدينة” ما هو إلا تمهيد لمشاريع قادمة تعيد تعريف العلاقة بالمدن حيث يعلن عبدالله ذلك موضحاً: "هذه البداية فقط. أعمل على مشاريع قادمة تتناول مدنًا أخرى، وقد تكون بوسائط متعددة. اللغة والمدينة فتح لي آفاقًا جديدة للتأمل: في النص كنسيج حضري، وفي الصورة كوثيقة، وفي المكان كذاكرة قابلة لإعادة الكتابة. نحتاج دائمًا أن نُعيد تأليف مدننا، لا كي نُكرّرها، بل لنفهمها أكثر".