في حقول مهد العطور حوار خاص بـ"هي" مع Olivier Polge مبتكر عطور Chanel
حوار: مي بدر Mai Badr
دعتنا دار " شانيل" Chanel إلى حقولها الخلابة في غراس مهد العطور وعاصمتها، حيث تعرفنا إلى أزهار الدار وزراعتها مع خبراء "شانيل" وعائلة "مول" Mul التي وقعت معها" شانيل" بمبادرة من جاك بولج عقد شراكة هو الأول من نوعه. هدف هذه الشراكة هو التحكّم التام بعملية إنتاج الأزهار ونوعيتها وعددها، وضمان مستقبل مستمر لإرث غراس التي كانت خياراً طبيعياً لدار " شانيل" حين ابتكرت سنة 1921 أول عطر لها: " شانيل رقم 5". تحت نور شمس المتوسط وفوق تربة خصبة وفي أحضان مناخ مثالي، تزرع غراس منذ مئات السنين بعض أفضل المواد الخام للعطور.
خلال الزيارة حاورنا "أوليفييه بولج" Olivier Polge مبتكر عطور "شانيل" ابن غراس وابن مبتكر العطور الأسطوري جاك بولج. أوليفييه الذي تخصص في تاريخ الفن قرر تغيير مساره المهني واختيار العطور بعد فترة تدريب لدى "شانيل" . بعد التدرب والتمرن في عالم صناعة العطور، ابتكر عطورا لدور وماركات كثيرة حازت جوائز مرموقة. وسنة 2013 أعلنت "شانيل" أنه سيرث عرش صناعة عطورها عن والده بعد تقاعده؛ وهو مبتكر العطور الرابع الذي يتولى هذا المنصب. نناقش معه أهمية غراس والشراكة مع عائلة مول التي تضمن زراعة مستدامة للياسمين والورد منذ بدايتها، وميزات أزهار غراس ومعالجتها، ومصادر إلهامه بصفته عطّارا.
ما الذي يجعل غراس فريدة ومهمة في زراعة الأزهار العالية الجودة للعطور؟
أعتقد أن ما يجعل غراس فريدة بعض الشيء هو مكانتها التاريخية، فهي كما نسميها منبت العطور وموطنها. ولا تزال في غراس اليوم خبرة ومعرفة كبيرتان ومهمتان جدا في الاستقطار وتجارة المواد الخام التي قد تأتي من أي مكان في العالم. كانت غراس أيضا في السابق مركزا مهما لزراعة المواد الخام، لكن لسوء الحظ لم تبقَ هناك أراضٍ كافية. لهذا السبب ولأننا رأينا أن المنطقة التي نزرع فيها مكونات عطرنا الأول "شانيل رقم 5" معرضة لخطر النفاد، بدأنا قبل ثلاثين عاما شراكتنا مع عائلة مول. أعتقد أننا محظوظون في "شانيل"، لأنه منذ البداية كان العطّار يبتكر العطر الجديد ويصنّع العطر القديم، ولذلك نحن حريصون جدا على تأثير التغيرات في النوعية. لذلك، حافظنا على تقليد صناعة "عطر رقم 5". كنت أفكر قبل أيام ولاحظت أنه منذ سنة 1921 (حين ابتكرنا العطر(، كل الياسمين الذي دخل في "عطر رقم 5" لم يأتِ يوما من مكان يبعد أكثر من بضعة كيلومترات من هنا.
كما نعلم، إن والدك هو من بدأ العلاقة مع عائلة مول. هل يمكنك أن تخبرنا المزيد عن الشراكة بين "شانيل" وعائلة مول؟
نعم، هو من أنشأ هذه العلاقة، وتعرّف إلى عائلة مول من العطار الذي سبقه، إنها علاقة طويلة. انضم والدي إلى دار "شانيل" سنة 1978 ، ولدى وصوله أطلعه المبتكر السابق على كل النوعيات. وفي ذلك الوقت، كانت هناك شركات قليلة في غراس تستخرج الزيت من الياسمين من منتجين مختلفين، فتعرّف إليهم جميعهم. لكنهم في النهاية قالوا له: إنه إذا أراد العمل مع العائلة التي ما زالت تزرع أكبر عدد، فسيعرّفونه إلى أسرة مول. عندها اجتمع بهم، وسرعان ما أدرك أن صعوبة الحصول على كميات كافية من هذا الياسمين الرائع تزداد. وشيئا فشيئا، فكّر في أنه قد يكون ملائما التعامل مباشرة مع المزارع، فأبرمنا العقد سنة 1987. كان أمرا جديدا، وكان الأمر الأهم هو الأزهار، فلطالما حاولنا إيجاد طريقة تفاعل لا تضع أبدا علامات استفهام حول الجودة والنوعية، على الرغم من أن بعض العاملين في المصنع أحيانا يبالغون في الاستخراج أو في غلي الزيوت. حين بدأ التعاون بالتبلور، اضطرت العائلة إلى بناء مصنع لأن نضارة الزهرة مهمة جدا. فبنوا مصنعا مجاورا للحقل. مباشرة بعد وزنها، تُعالج فيه الأزهار في غضون نصف ساعة. كانت عائلة مول حينها تزوّد كمية هائلة من الياسمين وبعض الورود أيضا، فتعاونّا معهم فيما يتعلق بالياسمين والورد لسنوات عديدة، إلى أن استطعنا تكبير الحقول والبدء بثلاثة نباتات جديدة. الصنف النباتي الأول هو الغرنوقي المميز حتى ولو لم يكن زهرة، فنحن نقطّر كل أجزائه؛ وهو يتميز بعبيره الزهري ذي النفحة الوردية الباطنية. ثانيا، يأتي السوسن الذي يتطلب ست سنوات قبل أن يكون حاضرا للمعالجة )ثلاث سنوات في الحقل ومثلها للتجفيف(. زراعة السوسن كانت محصورة أولا في إيطاليا، لكننا سمعنا أن بعض الأشخاص توجهوا إلى الصين وأماكن أخرى من أجل تقليص مدة التجفيف، فكنا نخشى تراجع الجودة مع الوقت. لذلك قررنا أن نزرع هذا النبات. الجنس الأخير هو مسك الروم. ينتهي موسم الحصاد عادة في نوفمبر، لكن هناك شيئا يجري على مدار العام. أتيت إلى الحقول في ديسمبر الماضي، فرأيت أنه حتى لو انتهى الحصاد ما زال هناك من يعمل في تقشير جذور السوسن مثلا. وفي يناير يبدأ العمل على تحضير الورد. أهم أشهر الحصاد هي مايو للورد، وأغسطس وسبتمبر وأكتوبر لمسك الروم والياسمين. حصاد السوسن آلي، أما حصاد نباتات مثل الغرنوقي، فهو أسهل بكثير.
كانت هذه الشراكة سابقا محصورة بورد مايو والياسمين، والغلة اليوم تضم أيضا السوسن والغرنوقي ومسك الروم. هل من الممكن أن نرى في المستقبل أزهارا إضافية مزروعة في غراس؟
من الممكن أن نتوسع؛ لم لا؟ هذه الحقول هي الحد الأدنى؛ لا يمكننا أن نقلل المساحة مع الياسمين.
لا مساومة على الجودة
كيف تفحصون نوعية الأزهار؟
نفحصها بين الحين والآخر في الحقول، فنجري التجارب الصغيرة والكبيرة. اقتربنا من موعد انتهاء ثلاث سنوات من الانتظار، فحوّلنا زراعة الياسمين تماما إلى زراعة عضوية. مع بعض التجارب والاختبارات، نلاحظ أننا ربما لا نحتاج إلى خطوة معينة. نجري اختبارات صغيرة على كل الأزهار مرة كل ثلاث سنوات تقريبا. لكن في المصنع، نفحصها ونراقبها بانتظام شهريا.
هل يمكننا القول: إن "شانيل" تتحكم بكل العملية وبنوعية المكونات بشكل مطلق؟
نعم 100 في المئة، ما عدا مثلا إذا كان الطقس سيئا. ما رأيته اليوم في حقولنا وفي المصنع سيتكرر أيضا غدا، وهي العملية نفسها من بداية أغسطس حتى منتصف أكتوبر.
حين نلفظ اسم غراس، أول ما يتبادر إلى ذهننا عطر "شانيل رقم 5" وزهرة الياسمين. هل تختلف نوعية الياسمين ورائحته في غراس عن الياسمين في أجزاء أخرى من العالم مثل الهند ومصر؟
في الهند مثلا نوعان من الياسمين: النوع ذاته الذي نزرعه هنا ونوع آخر تذكر رائحته قليلا بزهرة البرتقال، وهو معروف بالفل. في مصر، يزرعون الصنف نفسه الذي نزرعه في غراس لكن بطريقة أخرى. أعتقد أن الاختلاف يكمن في التربة والمناخ والمصانع.
استعملتم في عطر "غابرييل" الياسمين المصري. لماذا لم تستعملوا ياسمين غراس؟
كل ما نزرعه هنا يدخل في قوارير "رقم 5". للأسف، هذا هو الحد الأقصى. لا يمكنني استعمال الياسمين من غراس في عطر جديد، وخصوصا في عطر نتوقع له مبيعات هائلة مثل "غابرييل". واللافت أن الأمر الأصعب ليس إيجاد الحقول، بل إيجاد أشخاص يعملون في الحصاد. فيوما بعد يوم يقل عدد الأشخاص العاملين في حقول فرنسا.
ما عطور "شانيل" الأخرى المصنوعة بشكل أساسي من أزهار آتية من غراس؟
المثل الأفضل هو "عطر رقم 5"، إضافة إلى الكثير من عطورنا الحصرية. غلة الورد تصل سنويا إلى 40 طنا. لدينا ما يكفي ل "عطر رقم 5"، وقد استعملت بعض الأصناف النباتية من غراس لعطور "ليز إكسكلوسيف". الغرنوقي يذهب بمعظمه إلى "كوكو نوار"، ومسك الروم إلى "غابرييل".
في حقول الإلهام
كم مرة في السنة تأتي إلى غراس؟
خلال الشهر الأخير، هذه هي المرة الثالثة التي أزور فيها غراس.
ما الزهرة المفضلة لديك؟ ولماذا؟
أحب عطر السوسن كثيرا. لكن حين أفكر في السوسن، لا أفكر في الزهرة بل في الجذور. فيمكن استعمال الجذور فقط لصناعة العطور؛ حاولنا استخدام الزهرة لكن لم يستطع أحد إيجاد طريقة لاستخلاص عبيرها.
أخبرنا عن أعز ذكريات طفولتك في غراس.
ترعرعت في باريس، فوالدي كان يعمل لدى "شانيل" في باريس. كنت أزور غراس أحيانا، لكنني لم أمضِ أي وقت في الحقول.
أين تجد مصادر الإلهام في عملك؟
أعتقد أن الإلهام موضوع كبير. وبرأيي كل شيء مصدر إلهام. ابتكار العطور وغيرها هو حالة ذهنية. قد يكون أي شيء مصدر إلهام، حتى المواد الخام. قد تتفاجئين بأن مبتكر العطور يحاول دائما أن يلتزم بالرائحة وبالنواحي الشمية وأن يبتعد دائما عن أي انطباعات بصرية. فنحن لا نعمل مع لوحة أفكار أو ما شابه. قد نبدأ أحيانا بمكوّن واحد أو بخلطات مواد معينة تلهمنا فكرة لعطر كامل.
هل تبدأ عملية الابتكار في الذهن إذا أم في الشم؟
يجب أن تبدأ في العقل أو القلب. في البداية لا تحتاجين إلى أنفك.