خاص لـ"هي": رحلة الباحثة السعودية نوف عبد الكريم بين ألحان اللغة وذاكرة المكان
في عالم يتقاطع فيه الصوت مع الكلمة، والموسيقى مع الهوية، تزهر نوف عبدالكريم، الباحثة السعودية التي تُبحر في أعماق التجربة اللغوية الموسيقية في الخليج. تخوض "هي" حديث مميز وملهم مع الباحثة السعودية.
بين صفحات الكتب وألحان الحياة، تسعى عبدالكريم لفهم كيف تُشكّل اللغة والموسيقى عالمنا، وكيف تلعب دوراً مهماً في بناء هوية الأفراد والجماعات. بدراستها للأنثروبولوجيا في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية بلندن، تركز اهتمامها على التجربة اللغوية الموسيقية ودورها في تشكيل الهويات في منطقة الخليج، وبالأخص في المملكة العربية السعودية.
كيف تعكس أعمالك الفنية الحديثة التفاعل بين اللغة والذاكرة والمكان؟
هذا سؤال معقّد وعميق، وما زلت أبحث فيه، وما زالت تجربتي البحثية في طور التشكيل. ومع ذلك، أكتب الحرف محاولة إعادة تخيّل معرفتي الحالية، وارتباطها بالواقع، وعلاقتها بهذا المثلث المركب. اللغة تجربة إنسانية ناقصة، وهي كذلك لأننا ضيوفها، وهو تعبير مثير أشار إليه عبدالفتاح كيليطو في "لن تتكلم لغتي". أعود إليه دائمًا كلما وجدت نفسي متعجبة من كيفية احتواء العربية لي، وكيف أصبحت جزءًا لا يتجزأ من كياني. أشعر أن اللغة مكان أسكن إليه وتسكنني. هذه العلاقة بين الضيف والمضيف تثير الاهتمام؛ فاللغة تتحول من كيان نعيه استخدامًا إلى كيان أكثر تعقيدًا. هي مكان ذو أبعاد محدودة، وحدودها مرتبطة بذاكرتي وبالذاكرة الجمعية التي أتشاركها مع عدد كبير من أفراد مجتمعي. ومع ذلك، نقصها ينبع من كونها محدودة بتجربتي الذاتية أولًا، ثم تجربتي الجمعية.
أعرّج هنا على ثلاثية المكان، الذاكرة، واللغة في التجربة الموسيقية، وهي جزء كبير من اهتمامي البحثي. أفكر في تجربة اللغة المكتوبة في القصيدة وقدرتها على خلق مساحات تشكّل هوية المستمع، والتي هي هويتي، وارتباطها الوثيق بالذاكرة الجمعية للمستمعين. أنظر إلى هذه الثلاثية من طبقات متعددة؛ فالقصيدة هي اللغة، الأغنية هي اللغة، اللحن هو اللغة أيضًا. اللغة هنا كيان مادي معقد، متشابك، ومرتبط بالتجربة الاجتماعية، الثقافية، الاقتصادية، والسياسية. كيف تسكننا اللغة ونسكنها؟ كيف يتشكل المكان المادي من خلالها؟ وما الذي يمكننا اتخاذه لتحليل وتفكيك هذه التجارب إلى أجزاء أصغر، لنقرأ من خلالها تجارب اجتماعية وإنسانية مشتركة رغم اختلاف شخوصها؟ هذه الأفكار تنعكس في أعمالي بشكل عام، وأحاول التجاوب معها.
كيف يساهم تنوع مجالات دراستك واهتماماتك في تشكيل نهجك الإبداعي الفريد؟
درست القانون في مرحلة سابقة من حياتي، وأدرس الآن الأنثروبولوجيا الاجتماعية، وهذه المقاربة بحد ذاتها أثرت تجربتي الإنسانية على مستويات عديدة. هناك بعدان ينبثقان من هذه التجربة، بين اللغة والإنسان؛ إذ درست أصول الفقه والقواعد والنظريات الفقهية، وهذا عمّق إلمامي باللغة العربية من جهة. ومن جهة أخرى، أجد قلبي دائمًا ميالًا للشعر والتجربة التراثية العربية، مما أغنى تجربتي الكتابية بعمقٍ أشعر أنه ينعكس في اختباري لللغة التي أسعى إلى أن تتجلى في أعمالي ككاتبة.
في الوقت نفسه، أدرس الآن التجربة الإنسانية من منظورٍ اجتماعي، وأتقاطع بشكل وثيق مع كل المفاهيم التي تشكّلت لدي في السابق. ورغم أنني أميل الآن إلى تحليل تلك المفاهيم بشكل أعمق، فإنها تظل دائمًا متصلة ببعضها. أشعر أنني كنت دائمًا أنثروبولوجية، حتى في لحظات طفولتي الأولى. دراستي للقانون جاءت كرد فعل على رغبة تلك الطفلة في اكتشاف عوالم ليست بالضرورة عوالمها، إلا أن الرغبة وجدت طريقها إلى التحقق.
واليوم، أكتشف ارتباط الإنسان بعوالم وكيانات جديدة أكثر تعقيدًا وتركيبًا، من منظور قد لا يكون جديدًا كليًا، لكنه يحمل طابعًا من الجدّة. لذلك، عندما أبدأ مشروعًا بحثيًا أو أكتب نصًا أو أحكي حكايةً، أشعر بأن هاتين التجربتين – القانونية والاجتماعية – تحضران معًا بشكل طبيعي. هذا الحضور ليس عن قصد، بقدر ما هو انعكاس لواقع ملاحظاتي وتجربتي البسيطة ولكن التراكمية.
ما الذي يلهمك عند استكشاف العلاقة بين اللغة والذاكرة والمكان في كتاباتك؟
السؤال الذي يجب أن نسأله: من يلهمني في هذه الثلاثية واستكشافاتها؟ والجواب ببساطة: جدة. مرتع الحكايات، نبض الشعر والفن، وسيدة قلبي التي علّمته أن يحكي ويكتب، أن يأخذ اللغة إلى أقصى مداها، مستكشفًا خباياها، ثم يعود كما تعود الوفود كل عام، عابرةً ميناءها.
جدة هي ملهمتي، بشوارعها وناسها وحكاياتهم. هذه المدينة الساحرة والمعقدة، المعجونة بالصوت واللحن، وذاكرتها التي تعد واحدة من الأقدم في المنطقة العربية. بحرها يجمع ولا يعترف بالحدود. أظن أن إلهامي البحثي وممارستي الكتابية ينبعان منها. أشعر بالخجل أن أقول كل هذا وما زالت جدة وجهًا أكتشفه كل يوم. حكاياتها أخاذة، وأعيش اكتشافها في كل مرة كأنها المرة الأولى. أمازح أحد الأصدقاء قائلةً كيف لهذه المدينة أن تكون لا نهائية هكذا؛ ممتدة وشاسعة في الواقع كما في الحكاية. وهي بالفعل كذلك، مدينة تعرفها من جديد كلما التقيتها أو التقيت أهلها.
كيف ترين تطور الهوية من خلال النصوص الأدبية التي تكتبينها، وكيف يؤثر ذلك على تجربة القارئ؟
للإجابة عن سؤال تطور الهوية، يجب أولًا أن أتعامل مع مفهوم الهوية ذاته، وهو ليس بالأمر السهل. إنه سؤالي الشخصي والذاتي الذي يدفعني للبحث، ومع ذلك، أستكشفه من خلال الخيال. أرى القصص المنسية وأعيد تشكيلها وكتابتها. أجدها في الجدران، الشوارع، وفي وجوه الناس. خاصةً حكايات النساء، التي أشعر بها وكأنها حكاياتي الشخصية.
لن أقول بأنني أحكي تلك الحكايات، لأنني لست صوتًا ولا منبرًا. أشبه بميناء جدة؛ محطة عبور، أقرأ الحرف ويكتبني. أبحث في تعقيدات اللغة وعلاقتها بالمكان والذاكرة المشتركة، وأتخيل! فالخيال كان دائمًا جزءًا أساسيًا في ممارساتي، سواء في الكتابة أو البحث.
مثلًا، في برنامج حي جميل الأخير في جدة بعنوان "عرّاف الصوت: حكايات غنائية من البحر الأحمر"، حاولت تطوير مشروع بحثي تجريبي بالتعاون مع فلي بروجكت وحي جميل. البرنامج كان مستلهمًا من الخيال لمواجهة الواقع، ولتقديم أساليب بحثية بديلة حول علاقة الإنسان المعقدة بالمكان من خلال الصوت، والجوانب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. انطلقت من الخيال حتى في تسمية البرنامج، مستلهمة من تجربة محمد الثبيتي في قصيدته "التضاريس"، حيث كتب: "جئتُ عرّافاً لهذَا الرَّملِ أسْتَقْصِي احتِمَالات السَّوادْ جئتُ أبْتَاعُ أسَاطيرَ ووقتاً ورمَادْ بينَ عينيَّ وبين السبتِ طقسٌ ومدينةْ"
استلهامًا من تلك الروح، دعوت المشاركين ليكونوا "عرّافين للصوت" بدلًا من الرمل، تحت سماء جدة، لننطلق من المفردة البسيطة مستشكفين موضوعات مثل الهوية والجغرافيا والأداء الشفهي والتأريخ والأساطير، التي هي جزء لا يتجزأ من ثقافتنا، كما حاول اكتشفاها الثبيتي.
كما أن الخيال لا يقتصر على تطوير مناهج بحثية، بل يظهر بوضوح في أعمالي الكتابية أيضًا. على سبيل المثال، في تكليفي الفني من المتحف السعودي للفن المعاصر لمعرض "في الليل"، سعيت لإعادة تعريف الليل كمكان بدلاً من زمن عبر اللغة، من خلال نص بعنوان "الشاهد الغائب". وكذلك خلال تجربتي ككاتبة مقيمة في إقامة مساحة بمعهد مسك للفنون، حيث استخدمت اللغة لحكاية قصص المادة؛ مثل المسجد، المبنى، الشارع، وحتى النخلة. تلك النصوص التجريبية التي جمعت بين المقالة والقصة القصيرة تحت عنوان "مرآة المدينة"، كانت محاولة لاكتشاف أبعاد ثلاثية تجمع بين اللغة، الذاكرة، والمكان.
الخيال يظهر أيضًا في الأعمال الكتابية التشاركية. على سبيل المثال، عندما قدمت ورشة عمل كتابية لليافعين في بينالي الدرعية في نسخته الإسلامية بعنوان "المدينة بعيونك، القصة بكلمات" لم يكن الهدف الرئيسي من هذه الورشة تطوير المهارات الكتابية أو اللغوية بقدر ما كان فتح المجال لخيال المشاركين، حيث أتحنا لهم أن يتخيلوا جدة ويحكوها في قصة، من عشرة صفات أو جملة واحدة، من خلال المواد الأرشيفية والتصويرية والأصوات والحكايات. وهذا يعكس قوة اللغة والتجربة في خلق مساحات تعبيرية بديعة تجمع بين الخيال والواقع، وتشكّل الهويات.
كيف تساهم أعمالك في توسيع آفاق فهم للغة كأداة لبناء المعاني وإعادة تشكيل الهوية؟
أفكر دائمًا في موجة النقد التي تُوجَّه إلى اللغة العربية بوصفها لغة شاعرية، تفتقد للموضوعية، أو غير مرنة. وأرى أن مثل هذا الانتقاد هو انعكاس للعلاقة المتشابكة بين المتحدث ولغته. ما أحاول فعله، وهو مجرد محاولات بسيطة لا تكاد تُذكر، هو اختبار صحة هذا النقد من خلال ما أبحث فيه، وأكتبه، وفي مراحل لاحقة ما أنشره.
اللغة طيّعة ومعطاءة، والسؤال الذي يشغلني دائمًا هو: كيف أروّض طواعيتها، وأعطيها بقدر ما تعطيني؟ والجانب الأكثر تعقيدًا هو كيف أواجه هذه الموجة النقدية بتحليل أعمق. نعم، اللغة العربية شاعرية، لكن ما العيب في الشعر؟ وكيف ارتبط الشعور بنقيض الموضوعية؟ تراثنا العربي مليء بالحكمة، حيث كان الشعور دليلًا وبيانًا، وكتبنا في الطب والفلك والعلوم الإنسانية بعذوبة الحرف. فهل هذه الانتقادات حقًا صادرة منا؟ أم أنها نابعة من أشخاص لم يفهموا اللغة يومًا، ويمارسون نوعًا من الاستشراق بوعي أو بدونه؟
وعندما نتحدث عن مرونتها، فإن مرونتها تنعكس في مرونة متحدثها. أستشهد هنا بالفيلسوف لودفيغ فيتغنشتاين عندما كتب: "حدود لغتي..هي حدود عالمي"، إذ إن افتراض المتحدث أن لغته قاصرة، يؤدي إلى انحصار عالمه في هذا الافتراض. وهذا ما يشغلني، وأحاول أختبره. مع ذلك، لا أعتقد هنا بسمو اللغة العربية على غيرها أو بأفضليتها، فهذا جدال عقيم يستحق الدراسة لفهم تداعياته اليوم. لكنني أؤمن أن سمو اللغة وأفضليتها ينبعان من إيمان المتحدث نفسه، ومن تركيبة هويته الشخصية، وتطويعه للغة.
لهذا السبب، أختبر هذه العلاقة من منظوري الذاتي وموقعي الحالي، في هذه اللحظة التي تتيح لي استكشاف مكامن اللغة. أسعى لفهم دورها في تشكيل الهويات، وتفكيكها، وإعادة تشكيلها مرة أخرى.
هل هناك مشاريع أو أعمال قادمة تعتزمين العمل عليها؟ وما هي المواضيع التي تنوين استكشافها في المستقبل؟
أنا أؤمن أن "الطبخة وإن طالت لن تخرب، وستنضج أكثر"، وهذا ينطبق تمامًا على ثلاثية اللغة والمكان والذاكرة التي ستظل ركيزة اكتشفها وأعيد اكتشافها كطبقة أساسية في مشاريعي، ومن خلالها أنطلق لاستكشاف جوانب مختلفة في المشاريع الثقافية والفنية. ولذلك، خلال العامين الماضيين، كنت أعمل مع دار نشر في جدة العزيزة تُدعى "خنفس"، والآن أوشكنا على جني ثمار هذا المشروع. في هذا السياق، نقلت مجموعة قصصية كتبتها لما عالم، إحدى مؤسسات الدار، من الإنجليزية إلى العربية. وأصر على استخدام كلمة "نقل" بدلاً من "ترجمة" لأن هذه التجربة، التي امتدت لعامين، كانت اختبارًا حيًا لقدرة اللغة على تطويع اللغة، بجانب اهتماماتي البحثية الأخرى في المكان، والذاكرة. حيث تأتي هذه القصص بمزيج من اللغة في التجربية العربية والإنجليزية، والمكان في جدة، والذاكرة الجمعية لحدث مهم في المملكة ستكشف عنه القصص لاحقًا.
أما الآن، هذه اللحظة، أترقب المستقبل بشغف، وكل ما تحمله جدة من مفاجآت، مصدر إلهامي المستمر.