معالجة في علم النفس العيادي تكشف كل ما يجب أن تعرفيه عن "الإجترار"
بقلم: بيرلا زغيب - معالجة في علم النفس العيادي ومحاضرة جامعية
هل سبق لكِ أن أردتِ التراجع عن شيء قلتيه؟ أو قمت بتكرار تفاصيل محادثة ما في عقلك، وتخيلت إجابات ونتائج مختلفة لهذه المحادثة وتمنيت لو أن الظرف متاح لقول ما لم تقوليه وتصححي أو تغيري مجرى الأمور؟
قد تلومين نفسك على ذلك أو تشعرين أنك الوحيدة التي تمر بتجربة مماثلة وأن النساء الأخريات يجدن تصويب الأمور في حياتهم من دون جهد يذكر. الواقع هو أن الأمر مغاير تماما؛ هذا الأمرأكثر شيوعًا مما تعتقدين، وغالبًا ما يكون وسيلة حماية نفسية من تأثير التفاعلات السلبية الماضية أو المحتملة في المستقبل. كيف؟ تفاصيل هذه الظاهرة النفسية في ما يلي:
التفكير في المحادثات: تجربة مشتركة بين الجميع
عزيزاتي النساء،غالبًا ما تجد العديد منكن نفسها تعيد تشغيل المحادثات الأخيرة مع الشريك في ذهنها. الأمر مشترك وسائد على نطاق واسع. ففي الإعادة محاولة للتحليل ولمعرفة الخطأ أو التفصيل الذي أدى إلى تطور معين للأحداث، أو استكشاف باطني لإجابات مختلفة بديلة لربما كانت لتقود إلى توجيه المناقشة لنتائج أفضل لصالحك. ولا تقتصر هذه الإعادة الذهنية على علاقاتنا العاطفية فحسب، بل يمكن أن تحدث بعد خلافات مع العائلة والأصدقاء والزملاء والرؤساء وحتى أطفالنا، حيث إن الحوار الداخلي "كان يجب أن أقول هذا" أو "كان بإمكاني الرد بهذه الطريقة" هو طريقة عقلنا لمنحنا فرصة للانتقام. علاوة على ذلك، يمكن أن يكون في شكل تحضير استباقي للحجج والمحادثات المستقبلية.
وبالتالي تصبح هذه العملية الاستبطانية أداة للتخفيف من الضرر المحتمل للـ"أنا"، وفي بعض الأحيان، تكون بمثابة وسيلة فعالة لتنظيم الشعور بالذنب أو الاستياء، تجاه أنفسنا والآخرين.
مثلا، يمكن أن يؤدي التفكير في خلاف حصل مع زميل أو زميلة في العمل أو مع أحد أفراد الأسرة إلى التفكير بسيناريوهات وأفعال وردود أفعال متخيلة، حيث يعمل دماغنا بلا كلل لمساعدتنا على الشعور بنوع من استعادة السيطرة على الأحداث في المستقبل وإعادة كتابة السردية لصالحنا.
في الآونة الأخيرة، انتشر مصطلح "متلازمة جوسكا" على وسائل التواصل الاجتماعي وبعض وسائل الإعلام، ويتم استخدامه لوصف هذا المفهوم الموصوف أعلاه. وقد تذهب بعض النقاشات إلى أبعد من ذلك حيث يزعم البعض أن للمتلازمة مراحل ولكل مرحلة خصائص وأوصاف.
الحقيقة مختلفة بعض الشيء. فكلمة "جوسكا "قام بصياغتها في الأصل المؤلف والمحرر الأمريكي "جون كونيج" في كتابه "قاموس الأحزان الغامضة. "ووفقا لـ"كوينج"، فإن “جوسكا “هي "محادثة افتراضية تجريها في رأسك بشكل قهري - تحليل واضح، وحوار مسهل، وعودة مدمرة"، حيث إنه بمثابة قفص نفسي، يتواصل فيه الشخص بشكل وهمي مع محيطه بشكل أعمق وأكثر مباشرة وجرأة من لعبة التواصل الحذر التي يمارسها عادة في حياته اليومية.
وعلى الرغم من استخدام هذا المصطلح على نطاق واسع، خاصة في الشرق الأوسط، فمن المهم إدراك أن "متلازمة جوسكا" ليس لها أي أساس علمي. في المجال المهني للعلاج النفسي، قد يكون أقرب نظير لهذا المفهوم هو الاجترار Rumination. الاجترار هو أحد الأعراض الموصوفة في اضطرابات مختلفة مدرجة في الدليل التشخيصي والإحصائي (DSM)، وهو مرجع رئيسي للاضطرابات النفسية. ومن المعروف أن الاضطرابات مثل الاكتئاب والقلق والوسواس القهري واضطرابات الأكل تظهر الاجترار كأحد الأعراض، ولذلك سنشير في بقية حديثنا إلى الظاهرة التي نتحدث عنها بدلالتها العلمية وهي الاجترار.
ما هو الاجترار؟
من المثير للدهشة أن الاجترار، الذي غالبًا ما يتم انتقاده بسبب آثاره السلبية المحتملة، يخدم غرضًا مزدوجًا، فمن ناحية، يوفر مساحة لاكتساب الأفكار، والتعلم من الأخطاء، وتعزيز النمو الشخصي، وشكلاً من أشكال التحليل الذاتي الذي يعزز المرونة، ومن ناحية أخرى، فإن تصور السيناريوهات المستقبلية يصبح استراتيجية تحضيرية، تساعد في توقع التحديات، وتخطيط الاستجابات، وتعزيز القدرة على التكيف مع تقليل القلق في المواقف القادمة.
متى يؤثر الاجترار على صحتنا النفسية؟ ومتى يجب التوجه لدى الأخصائي النفسي؟
يصبح الاجترار سببًا للقلق إذا كانت اجتراراتك مصحوبة بأعراض أخرى قد تعيق بشكل أو بآخر التفكير المنطقي أو تؤدي إلى إعاقة الحياة اليومية بطريقة أو بأخرى أو تؤدي إلى تغير في السلوكيات او في النوم أو الشهية أو غيرها. هنا وجب طلب المساعدة المهنية للتخفيف من هذه الأعراض وإعادة السيطرة على أفكارك وحياتك.
في بعض الحالات مثلا، يمكن أن يصبح التفكير المفرط أو الاجترار عائقًا، فيصبح الشخص محاصرا بدوامة من نسج السيناريوهات المختلفة بشكل لا متناه، مما يعيق ارتباطه بالحاضر وبالواقع، ويغدو أسير أفكاره في الماضي أو المستقبل.
وقد يعرضك التفكير الاستباقي لضغوط غير مرغوب فيها، مما يمنعك من الاستمتاع بالحاضر بشكل كامل. ومن المهم إذا أن ندرك متى يصبح التفكير مفرطًا ويتحول من آلية تكيف مفيدة إلى حاجز محتمل.
ماذا يمكننا أن نفعل لمساعدة أنفسنا؟
الخطوة الأولى في معالجة أي عبء نفسي هي التعرف عليه، وقبوله، واتخاذ الخطوات اللازمة لتخطيه.
إذا كنتِ تشعرين أن عبء الاجترار يؤثر سلبًا عليكِ و أنك تقضين معظم وقتك في هذه الدوامة، فإليكِ بعض الخطوات التي يجب تأخذيها بعين الاعتبار
أولا، التنبه إلى الدوامة والاعتراف بوجودها . هل هناك أنماط معينة، أشخاص معينة، موقف محدد، أو حالة ذهنية معينة تثير هذا الاجترار؟
ثانيًا، اسألي نفسك: هل هذا مفيد ويخفف من تأثير وقع الموقف علي ، أم أنه أصبح عديم الفائدة ومفرطًا ومضيعة للطاقة والوقت؟
ثالثًا، عندما تتنبهين أنك بدأت تجترين أفكارك، يمكنك القيام بتمارين التركيز الذهني التي تساعدك على تثبيت نفسك في الحاضر. إحدى هذه تقنيات هي التأريض (Grounding) وهي سهلة. إليك الطريقة : 5,4,3,2,1ركزي على: 5 أشياء يمكنك رؤيتها، و4 أشياء يمكنك لمسها، و3 أشياء يمكنك سماعها، وشيئين يمكنك شمهما، وشيء واحد يمكنك تذوقه. والغرض من هذا التمرين هو إعادتك إلى الحاضر، ومنع أفكارك من التجول بين الماضي غير القابل للتغيير والمستقبل غير المعروف.
أخيرا وليس آخرا، الرسالة الأكثر أهمية التي أريدك أن تستخلصيها من قراءة هذا المقال، هي رسالة التعاطف مع الذات وحب الذات. وتذكري دائمًا أننا بشر، وارتكاب الأخطاء أمر متأصل في طبيعتنا. فعندما نحتضن أنفسنا ونعترف بأخطائنا، ونتقبل النقص، تتضائل عمليات النقد الذاتي مثل الاجترار بشكل طبيعي.
اما الهدف النهائي هو أن نعي ونفهم الفوارق الدقيقة في المشهد النفسي لدينا، مما يمكننا من احتضان الحاضر وشق طريق نحو حياة أكثر وعيًا وإشباعًا حاليا وفي المستقبل.