التوحد.. مرضٌ عصبي يتسبب بصعوبات اجتماعية وتعلَمية واضطرابات بالنوم
ظهرت خلال السنوات الأخيرة، مشكلةٌ صحية يعاني منها الأطفال، ربما كانت موجودةٌ من قبل لكن الطب لم يستطع تشخيصها إلا حديثًأ؛ ألا وهي مرض التوحد، وهو اضطرابٌ دائم في الجهاز العصبي ناتج عن عوامل وراثية أو أيضية أو بيولوجية أخرى.
وبحسب إحصائيات منظمة الصحة العالمية، يعاني طفل واحد من كل 160 طفلًا حول العالم، من اضطراب طيف التوحد. وقد تم تخصيص الثاني من شهر إبريل من كل عام، للاحتفال باليوم العالمي للتوحد وتوعية المجتمعات حول هذا المرض وكيفية التعامل مع الأطفال المصابين به.
مرض التوحد أو الذاتوية، هو أحد الاضطرابات التابعة لمجموعة من اضطرابات التطور المعروفة طبيًا باضطرابات الطيف الذاتويّ (Autism Spectrum Disorders - ASD)، ويظهر في سن الرضاعة قبل بلوغ الطفل سن الثلاث سنوات على الأغلب. ومن أبرز أعراضه كما جاء على موقع "ويب طب"، صعوبات في المهارات اللغوية والعلاقات الاجتماعية المتبادلة؛ حتى أن بلوغهم يزيد من مشاكلهم السلوكية سوءً.
قسمٌ من أطفال التوحد بطيئون في تعلَم معلومات ومهارات جديدة، وآخرون منهم يتمتعون بنسبة ذكاء طبيعية، أو حتى أعلى من أشخاص آخرين عاديين. هؤلاء الأطفال يتعلمون بسرعة، لكنهم يُعانون من مشاكل في الاتصال في تطبيق أمور تعلموها في حياتهم اليومية وفي التأقلم مع الأوضاع المختلفة. في حين أن قسمًا ضئيلًا جدًا من الأطفال الذين يُعانون من مرض التوحد،هم مثقفون ذاتويّون وتتوفر لديهم مهارات استثنائية فريدة، تتركز بشكل خاص في مجال معين، مثل الفن، أو الرياضيات أو الموسيقى.
وبالرغم من اختلاف خطورة وأعراض مرض التوحد من حالة إلى أخرى، إلا أن جميع اضطرابات الذاتوية تُؤثر على قدرة الطفل على الاتصال مع المحيطين به وتطوير علاقات متبادلة معهم.
أطفال التوحد والأرق
هذا ويعاني نحو 80٪ من الأطفال المصابين باضطراب طيف التوحد (ASD) من الأرق أو اضطرابات النوم، ما قد يؤثر سلباً على جودة حياتهم وحياة أسرهم، وفقاً لخبيرة طبية من مستشفى كليفلاند كلينك للأطفال، والتي أشارت إلى أن هناك العديد من التدخلات والاستراتيجيات التي يمكن أن تساعد على إدارة هذه المشكلات.
وأوضحت الدكتورة سينثيا جونسون، مديرة مركز كليفلاند كلينك للأطفال للتوحد، وأستاذة طب الأطفال أن الأرق يُمثَل مشكلةً أكثر شيوعًا على نحو ملحوظ لدى الأطفال المصابين بالتوحد مقارنةً بعموم الأطفال، ويستمر أيضاً لفترة أطول. ويمكن أن يمتد حتى سن المراهقة والبلوغ إذا تُرك دون علاج.
ونوّهت الدكتورة جونسون إلى أن السمات السلوكية مثل الصلابة والإصرار على التماثل والنمطية في التصرف (مقاومة التغيير) وضعف التواصل والقلق وفرط النشاط، من بين العوامل العديدة التي قد تسهم في زيادة خطر الإصابة بالأرق لدى الأطفال المصابين بالتوحد. ويمكن أن يكون هناك تأثيرٌ سلبي ناتج عن عوامل الخطر البيولوجية، مثل الاستثارة المتزايدة، أو الاختلافات في نمو الدماغ، أو إفراز هرمون الميلاتونين المُتغير أو الطفرات في الجينات التي تؤثر على إيقاعات الساعة البيولوجية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تؤدي العوامل السريرية، مثل مشكلات الجهاز الهضمي غير المُعالجة والآثار الضارة للأدوية أيضاً، إلى زيادة تعقيدات اضطرابات النوم.
تأثير اضطرابات النوم على مرضى التوحد
وحول تأثيرات الأرق أو اضطرابات النوم على الأطفال، أشارت الدكتورة جونسون إلى أن النوم يساهم بدور حيوي في نمو الأطفال وتطورهم وجودة حياتهم. وقد أظهرت الدراسات أن عدم الحصول على قسط كافٍ من النوم الجيد والعميق، يمكن أن تكون له آثارٌ سلبية على الانتباه والسلوك أثناء النهار، وكذلك عملية تنظيم العواطف والتحكم بها؛ ويمكن أن تؤثر أيضًا على صحة القلب والأوعية الدموية، وعملية التمثيل الغذائي، والجهاز المناعي لدى الأطفال.
وأضافت الدكتورة جونسون أن التأثيرات السلبية لا تقتصر على الطفل فحسب، بل تمتد لتشمل الأسرة أيضاً؛ إذ تؤثر عدم قدرة الطفل على النوم على نمط حياة أفراد الأسرة وخصوصًا الأهل، الذين يجدون أنفسهم مجهدين على المدى الطويل، حيث يُكرّس الآباء الكثير من أوقاتهم لوضع الخطط والاستراتيجيات التي يمكن أن تساعد أطفالهم على النوم بشكل جيد.
ولفتت إلى أن أشكال اضطرابات النوم لدى الأطفال المصابين بالتوحد تختلف من طفل إلى آخر. وقد تكون مشكلات النوم غير منتظمة أو دورية أو مستمرة، كما يمكن أن تتخذ أشكالًا عديدة. على سبيل المثال، قد يقاوم الطفل النوم في أوقات معينة، أو يصر على تمديد فترة أنشطة ما قبل النوم، أو قد يواجه صعوبات في النوم أو البقاء نائمًا، أو قد يستيقظ الطفل مبكرًا.
وبحسب الدكتورة جونسون، فإن التدخلات أو العلاجات تختلف أيضًا وفقًا لنوع أو شكل اضطرابات النوم وطبيعة كل طفل. وتضيف: "بما أن كل طفل يستجيب بشكل مختلف لاستراتيجيات العلاج، يجب على الوالدين مراجعة خبير طبي أو اختصاصي في اضطرابات النوم لدى الأطفال والتدخلات السلوكية. والهدف من ذلك هو التعامل مع المشكلة بشكل تعاوني ومنهجي، واستكشاف الروتين النهاري والليلي للطفل والأسرة، وتجربة مختلف الاستراتيجيات الوقائية وبناء المهارات حتى يتم العثور على الحل الأفضل".
علاج الأرق عند مرضى التوحد
بيّنت الدكتور جونسون أن أساليب العلاج مستمرةٌ في التطور، وقد تمَ العثور على علاجات جديدة على مدار العقد ونصف العقد الماضيين. وتشمل منهجيات العلاج القائمة على السلوك التعديل البيئي، وتحسين القدرة على التحكم في التحفيز، وبناء المهارات والاستفادة من مبادئ التعزيز؛ إضافةً إلى أن الاستخدام قصير المدى للأدوية مثل مُكملات الميلاتونين، يمكن أن يؤخذ بعين الاعتبار كإحدى الاستراتيجيات العلاجية.
واختتمت الدكتورة جونسون بالتأكيد على خبر سار، مفاده أن العديد من المشاريع البحثية التي شاركت فيها بنفسها، تُظهر أن الاستراتيجيات السلوكية يمكن أن تُحدث فرقًا كبيرًا في الحد من الأرق؛ ويمكن لأسرة الطفل المصاب باضطراب طيف التوحد تنفيذ العديد من الاستراتيجيات بنجاح.
التوحد والأشقاء.. علاقة الأخوة بين طفل طيف التوحد وطفل سليم
من ناحية أخرى، تطرقت الدكتورة صوفيا ستيجكا، طبيبة نفسية معتمدة CDA من مركز ثرايف للصحة النفسية، لموضوع غاية في الأهمية ألا وهو علاقة الأخوة بين الأطفال المصابين بالتوحد وأخوتهم الأصحاء.
وقالت ستيجكا الحاصلة على درجة الماجستير في علم النفس للأطفال والمراهقين من جامعة ليدن في هولندا، وشهادة الدراسات العليا في علم النفس التطبيقي من جامعة يورك، ولديها خبرةٌ واسعة في مجالات العلاج النفسي، وتدريب الوالدين، وعلم النفس للأطفال والتعليم أن روابط الأخوة أمرٌ بالغ الأهمية؛ وعلى الرغم من اختلاف الأطفال عن بعضهم البعض، يبقى لهذه الرابطة تأثيرٌ خاص.
مضيفة أن للأشقاء في المنزل تأثيرٌ مباشر على تجارب العائلة ومهاراتهم الاجتماعية المكتسبة وهويتهم الذاتية. إذ يتشارك الأخوة نفس الآباء والظروف والذكريات العائلية بحلوها ومرها. وبالرغم من وجود اختلافات عصبية أحيانًا بين الأشقاء، مثل إصابة أحدهم بطيف التوحد، فإن هذه الاختلافات شائعةٌ وتؤثر على الروابط الأسرية والروتين اليومي وحياة العائلة. حيث يكون هناك تحدياتٌ ومخاوف في بعض الأحيان، ولكن يمكن تجاوزها بالتواصل والتفاهم بين الأخوة وأفراد العائلة.
معاناة الطفل السليم ضمن عائلة طفل التوحد
عادةً ما يكون تشخيص اضطراب طيف التوحد لدى أحد أفراد الأسرة، هو بداية رحلة البحث عن الأطباء والأخصائيين الذين يمكنهم توفير الدعم العملي والاجتماعي والعاطفي لمساعدة الطفل وتطوير شخصيته. وبالرغم من توفر كل هذه الرعاية، إلا أن احتياجات الطفل الآخر السليم قد يتم تجاهلها عن غير قصد، نظرًا لتركيز الدعم والرعاية على الطفل المُصاب بطيف التوحد.
الطفل السليم ذو الاحتياجات الأقل، يُتوقع منه أن يكبر بسرعة أكبر من نواح عديدة. ويفتقر الطفل السليم إلى "الحق" أو الوقت المناسب ليكون محور الاهتمام، كونه نشأ مع شقيق أو شقيقة تحتاج إلى عناية خاصة؛ وذلك يحدَ من قدرة الطفل السليم على التعبير عن مشاعره وعواطفه الكبيرة.
في بعض الأحيان، يمكن للأطفال الذين لديهم أشقاء يعانون من طيف التوحد أن يشعروا بالوحدة. لذلك من المهم التواصل معهم وربطهم مع خبراء وأشخاص يفهمونهم. وتشير الدكتورة ستيجكا لوجود مجموعات الدعم النفسي للأشخاص الذين يتشاركون في تجارب مماثلة، حيث يمكنهم معالجة مشاعرهم الصعبة والطبيعية مثل الغضب والاستياء والحزن والإحباط. وعندما يشارك الأطفال في مثل هذه المجموعات، فإنهم غالبًا ما يجدون طرقًا جديدة للتعامل مع المواقف الصعبة؛ كونهم يبدأو بالشعور أنهم مسموعون وليسوا بمفردهم.
كيف يساعد الأشقاء أخوتهم المصابين بالتوحد
يتعلم الأشقاء طرقًا مختلفة للتواصل؛ إنهم يتعلمون منذ صغرهم على تلك السلوكيات التي قد يُصنَفها الآخرون على أنها سلوكياتٌ غير نمطية، مثل لَفْظٌ صَدَوِيّ والطيات الصوتية (الحبال الصوتية)، وهي طرقٌ يُعبَر عنها الطفل المصاب بطيف التوحد عن عواطفه واحتياجاته. يمكن للأشقاء أن يكونوا مثالًا حياً للتنوع في المجتمع، ويمكنهم مساعدة الآخرين على فهم أن الأفراد المصابين بطيف التوحد يحتاجون إلى دعم وتفهم وليس تعديل لسلوكياتهم.
كما يُطوَر الأشقاء مجموعةُ معينة من المهارات من أجل التفاعل، والتواصل بفعالية أكثر مع أشقائهم المصابين بطيف التوحد. يتعلمون احترام الروتين اليومي لهم، والحرص على استخدام لغة معينة ودقيقة للتواصل، وعدم أخذ الانفعالات بشكل شخصي، والتكيف مع الواقع والتوقعات. وقد يضطرون للتعاون مع والديهم لمساندة الأسرة وهم لا يزالون بعمر الطفولة.
منذ صغره، يصبح الطفل السليم مُقدَم رعاية لشقيقه المصاب بطيف التوحد والداعم الرئيسي في مساعدة الأسرة، ويصبح الملجأ الآمن لشقيقه وصديقٌ جدير بالثقة، يقف بجانبه في الأوقات الجيدة والسيئة. هؤلاء الأطفال هم حتمًا أكثر نضجًا من الأطفال الآخرين في سنهم؛ فهم أكثر قبولًا لاختلافات الآخرين وتحملهم للصعوبات. سيكون من الصعب القول ما إذا كانت هذه الديناميكية عادلةٌ أم لا بنسبة لهم ، ولكنها رحلة طويلة بدون نتائج واضحة، تضيف ستيجكا.
في الختام، تنصح الدكتورة ستيجكا كل أسرة لديها طفل يعاني من التوحد ويعانون من القلق وصعوبات في إدارة الموضوع، طلب المساعدة من الجهات والمراكز المختصة التي توفر لهم كافة الاستراتيجيات المساعدة والدعم في مواجهة تحديات هذا المرض.