د. مايا بزري ل"هي": كل أسباب الانتحار قابلة للعلاج.. وهكذا نمنع الافكار الانتحارية من تحطيمنا
"أنهى حياته بيده" "أنهت حياتها بنفسها".. هي العبارة الأكثر تداولًا، عندما نتحدث عن انتحار أحدهم.
ليتبعها السؤال الأهم: لماذا؟ .. وهو السؤال الذي لا نجد عليه إجابةً شافية في كثير من حالات الانتحار التي نشهدها.
البعض فكر بالانتحار وحوَل هذا التفكير إلى حقيقة مأساوية؛ البعض الآخر فكر بالانتحار لكنه لم يُقدم عليه؛ وهناك البعض ممن قد يفكرون بالانتحار، كحلَ نهائي يُريحهم من عذاباتهم اليومية، سواء بسبب المرض أو العوز المادي أو لأسباب أخرى كثيرة.
لماذا ينتحر الناس، ويسلبون من هذا الجسد تلك الروح التي منحها الله تعالى لنا كأمانة قيَمة؟
لماذا يتجه البعض نحو أسوأ الأفكار سوداوية وبشاعة، ليضعوا حدًا لحياتهم التي تحفل بالكثير من الأشياء واللحظات الجميلة؛ في لحظة تخلَي وضعف شديدين؟
كان لا بدَ لنا من التحدث إلى خبير في مجال الصحة النفسية؛ للبحث عن هذه الإجابات، لتسليط الضوء أكثر على خطورة "الأفكار الانتحارية" التي تداهم بعضنا بين الحين والآخر حين نفقد الأمل، ولمعرفة كيفية التعامل مع الأشخاص الذين يبدون جنوحًا نحو الانتحار.
واخترنا الدكتورة مايا بزري، حاصلة على دكتوراه في الصحة العامة؛ وهي طبيبةٌ نفسية، وخبيرة في الصحة العالمية؛ وحدَثتنا من العاصمة اللبنانية بيروت حول الانتحار وكيفية منعه بالطرق الصحيحة والسليمة.
بدايةً، لنشرح للناس أكثر:ما هو الانتحار وما أسبابه؟
الانتحار هو السبب الرئيسي للوفاة التي يمكن الوقاية منها.. هذا هو التفسير الأصح لموضوع خطير مثل الانتحار.
لا يوجد سببٌ واحد للانتحار؛ وقد يحدث غالبًا عندما تجتمع الضغوطات والقضايا الصحية لتخلق تجربةً من اليأس والعجز التام. الاكتئاب هو الحالة الأكثر شيوعًا وارتباطًا بالانتحار، وغالبًا ما لا يتم تشخيصه أو علاجه في مراحل مبكرة. تزيد حالات مثل الاكتئاب والقلق ومشاكل المواد المُخدرة، خاصة عند عدم معالجتها، من خطر الانتحار. ومع ذلك، من المهم أن نلاحظ أن معظم الأشخاص الذين يتعاملون بفعالية مع حالات صحتهم العقلية، يستمرون في الانخراط في الحياة.
من الأشخاص الأكثر عرضة لخطر الانتحار؟
يمكن أن تكون عوامل الخطر بيولوجية (حالات الصحة العقلية مثل الاكتئاب وتعاطي المخدرات والفصام واضطراب ثنائي القطب وسمات الشخصية والقلق الشديد الذي لا يتم علاجه - ولكن أيضًا حالات الصحة البدنية الخطيرة بما في ذلك الألم المزمن وإصابات الدماغ المؤلمة غير المعالجة)، إضافةً إلى عوامل بيئية، وفي الغالب تتعلق بتاريخ الشخص نفسه. من بين العوامل البيئية، هناك أشياء يجب أن نسعى جاهدين للتخفيف منها؛ مثل الوصول إلى الوسائل القاتلة (بما في ذلك الأسلحة النارية والمواد أو المخدرات الخاضعة للرقابة - وهي الطريقة الأولى لتقليل خطر الانتحار)، والتعرض إما للإجهاد المزمن (البطالة، التنمر والإساءة) أو ضغوطات الحياة الحادة.
أريد أن أضيف أن التعرض لانتحار شخص آخر، والروايات المثيرة للانتحار تُعدَ ضارةً للغاية (ومن هنا جاءت الملاحظة حول كيفية تعامل وسائل الإعلام مع الانتحار). عندما أقولُ أن تاريخ الشخص هو المهم - أي أن تاريخ محاولات الانتحار السابقة أو تاريخ العائلة من الانتحار يُعدَ عامل خطر، بالإضافة إلى تاريخ إساءة معاملة الأطفال أو الصدمة (بما في ذلك الإهمال). عادة لا يكون هناك عامل واحد، بل مزيجٌ من معظم هذه العوامل، هو الذي يجعلنا نقول عند التقييم "هذا الشخص أكثر عرضة لخطر محاولة الانتحار".
ما هي العلامات التحذيرية للانتحار؟
الشيء الذي يجب الانتباه إليه، عندما نشعر بالقلق من أن شخصًا ما قد يكون لديه ميول انتحارية؛ هو التغير في السلوك أو وجود سلوكيات جديدة تمامًا. وهذا هو مصدر القلق الشديد؛ خاصةً إذا ما كان السلوك الجديد أو المتغير مرتبطًا بحدث مؤلم أو خسارة أو تغيير جذري.
معظم الأشخاص الذين ينهون حياتهم، تظهر عليهم علامةٌ تحذيرية واحدة أو أكثر، إما من خلال ما يقولونه أو ما يفعلونه. إذا عبَر الشخص عن أفكار حول إنهاء حياته، أو شعوره باليأس، أو العجز، أو فقدان الإحساس بالهدف في الحياة، أو المرور بألم لا يطاق، أو الشعور بأنه عالق. إذا لاحظت أن الشخص أصبح أكثر انعزالًا وعزلة، أو يتعاطى المخدرات أو الكحول بشكل متكرر، أو يتخلى عن ممتلكاته الثمينة، أو يزور الناس لتوديعهم، أو يبحث عن طرق ووسائل لإنهاء حياته.
التغيرات المزاجية بما في ذلك التهيج والخجل والغضب والإثارة والتي غالبًا ما نتجاهلها، تُعتبر مهمةً عندما تقترن بما سبق. هذا لا يعني أن كل من يمرَ بأي من هذه الحالات، سيحاول الانتحار تلقائيًا؛ ولكن من باب القلق، يجب على الأقل أن تكون هذه علاماتٌ واضحة على أن الأشخاص الذين يحتاجون إلى المساعدة من أجل صحتهم العقلية، لا يرغبون بالضرورة في الانتحار.
ما الذي يجب فعله في حال عانى أحدهم من أفكار انتحارية؟
أنصحُ وبشدة بطلب المساعدة المهنية، كون الناس العادية ليست محترفة أو مؤهلة للتعامل مع هكذا حالات. هناك العديد من خطوط المساعدة والخطوط الساخنة المتاحة في الدول، والتي تقدم المساعدة فضلًا عن الدعم العاطفي، على المستوى الوطني وعلى مستوى المنظمات ذات الاختصاص.
لماذا نشهد زيادةً في محاولات الانتحار، خاصةً بين صغار السن والأجيال الشابة؟
لا أعتقدُ أنها زيادة مجرد زيادة في نسب الانتحار، بل هي زيادةٌ في الإبلاغ. يعاني غالبية الأطفال والمراهقين الذين يحاولون الانتحار،من اضطراب كبير في الصحة العقلية؛ وعادةً ما يكون الاكتئاب. بين الأطفال الأصغر سنًا، غالبًا ما تكون محاولات الانتحار متهورةً؛ وقد تترافق مع مشاعر الحزن، والارتباك، والغضب، أو مشاكل في الانتباه وفرط النشاط. عند المراهقين، قد ترتبط محاولات الانتحار بمشاعر التوتر، والشك في الذات، والضغط لتحقيق النجاح، وعدم اليقين المالي، وخيبة الأمل، والخسارة. وبالنسبة لبعض المراهقين، قد يبدو الانتحار حلًا لمشاكلهم.
الاكتئاب والمشاعر الانتحارية هي اضطراباتٌ عقلية يمكن علاجها؛ويحتاج الطفل أو المراهق إلى التعرف على مرضه وتشخيصه وعلاجه بشكل مناسب، من خلال خطة علاجية شاملة.
غالبًا ما يشعر الناس بعدم الارتياح عند الحديث عن الانتحار، لكن سؤال أي شخص عما إذا كان يعاني من الاكتئاب أو يفكر في الانتحار، يمكن أن يكون مفيدًا. تتضمن الأمثلة المحددة لهذه الأسئلة ما يلي:
● هل تشعر بالحزن أو الاكتئاب؟
● هل تفكر في إيذاء أو قتل نفسك؟
● هل فكرت يومًا في إيذاء نفسك أو قتلها؟
بدلاً من وضع الأفكار في رأس الطفل/الشخص، يمكن لهذه الأسئلة أن تُوفر ضمانًا بأن شخصًا ما يهتم، وستمنحه الفرصة للتحدث عن مشكلاته. بالنسبة للشباب، يجب على الأهل والمعلمين والأصدقاء دائمًا أن يتخذوا جانب الحذر والسلامة؛ وينبغي تقييم أي طفل أو مراهق لديه أفكار أو خطط انتحارية على الفور، من قبل أخصائي صحة عقلية مدرب ومؤهل.
إن دور التغطية الإعلامية سلاحٌ ذو حدين. وتشير الأدلة المتزايدة إلى وجود علاقة كبيرة بين التغطية الإعلامية غير الحذرة - وخاصة الإبلاغ عن حالات انتحار المشاهير - والزيادة الملحوظة في السلوكيات الانتحارية. هناك مبادئ توجيهية حول كيفية الإبلاغ عن الانتحار أتمنى تعميمها على قارئات موقعكم:
(منظمة الصحة العالمية، 2017 https://iris.who.int/handle/10665/258814)
منظمة الصحة العالمية (WHO). (2017). منع الانتحار: مورد للإعلاميين - تحديث 2017. متاح عبر الإنترنت على: https://apps.who.int/iris/handle/10665/258814
هل يهدد بعض الأشخاص "بالانتحار" لجذب الانتباه؟
لا أحبذ هذا السؤال صراحةً، وكثيرًا ما أُخبر الناس أنه إذا كان البعض لا يعرفون شيئًا أفضل، فإنهم لا يُزيَفون الفكر الانتحاري. قد يطلب الأشخاص المصابون بمرض عقلي المساعدة بعدة طرق، ولا ينبغي لنا أن نحكم عليهم بسبب الطريقة التي يعبرون بها عن ذلك.
ما هي خيارات العلاج للفكر الانتحاري؟
اعتمادًا على السبب الرئيسي – إذا كان شخص ما مُصابًا بالذُهان ويعاني من هلوسة سمعية، فمن المحتمل أن يكون العلاج مضادات الذهان. وإذا كان اضطرابًا مزاجيًا مثل الاكتئاب،فالعلاج يكون مضادات الاكتئاب، ويتم وصفهذه الأدوية جنبًا إلى جنب مع العلاج النفسي.
أعتقدُ أن الشيء الأكثر أهميةً الذي يجب معرفته هنا، هو أن كل هذه الأسباب قابلةٌ للعلاج؛ ويمكن منع الانتحار. فقط علينا تحويلهم ومساعدتهم في الوصول إلى متخصص أو إلى أقرب غرفة طوارئ بالقرب منك.
كيف نتجنب أي أفكار انتحارية في المستقبل؟
نحن ننظر إلى عوامل الحماية عند تقييم خطر الانتحار. وقد يشمل ذلك الحصول على رعاية الصحة العقلية، واتخاذ إجراءات استباقية بشأنها، والشعور بالارتباط بدعم الأسرة والمجتمع، ومهارات حل المشكلات والتكيف، ومحدودية الوصول إلى الوسائل المميتة، والمعتقدات الثقافية والدينية التي تشجع على التواصل وطلب المساعدة. إضافة إلى وسائل تثبيط السلوك الانتحاري، أو خلق شعور قوي بالهدف أو احترام الذات؛ كلها عوامل تساعد في منع وتجنب الأفكار الانتحارية لأي شخص، حاليًا وفي المستقبل.
في الختام، لا بدَ عزيزتي من عدم توجيه الاتهامات والاحكام المسبقة لكل من راودته فكرة الانتحار، أو حاول يومًا ما سلب حياته بيده بطرق مختلفة. بل لنكن عونًا وسندًا لهم، ولنحاول ألا نهمل أي إشارةٍ تُلمَح لوجود أفكار انتحاري لدى أحدهم، سواء كان من المقربين أو شخصًا صادفناه في مناسبة ما. فالوعي والاهتمام يسهمان كثيرًا في تفادي ومنع الانتحار، وحلَ كافة المشكلات التي قد تكون سببًا في نشأة هذه الأفكار من البداية.