علاجاتٌ متقدمة تُحسن حياة المرضى وتُعزز جودتها: أحدث علاجات مرض الثلاسيميا في المنطقة
من منا لا يحب الأطفال، ومن منا لا يعشق شقاوتهم وحركاتهم التي تخلب القلوب من جمالتها ورقتها؟ من منا لا يستمتع وهو يرى طفلًا يلهو ويلعب ببراءةٍ وشفافية، دون أي مُنغصات أو مشاكل تحد من انطلاقه في الحياة كالعصافير؟
الحقيقة أن الأطفال، فلذات أكبادنا، هم أكثر من نخاف عليهم من شيئين حتمين: المرض والموت؛ ولو كان بمقدورنا أن نحميهم جميعًا من هذين القدرين، لما وفرنا أي جهد. لكن مشيئة الله سبحانه وتعالى، تفرض علينا أحيانًا المرور بهذه التجارب القاسية مع أولادنا؛ وهناك يحتاج المرء منا للصبر وقدرةً كبيرة على التحمل والسعي للقيام بكل ما هو ضروري ومناسب لحماية هؤلاء الصغار.
يحضرني هذا الكلام اليوم، الثامن من مايو، والذي يُحتفل فيه حول العالم باليوم العالمي للثلاسيميا؛ المرض الذي يصيب المواليد الجدد ويمكن أن يستمر معهم لمرحلةٍ من الزمن. وقد كان الثلاسيميا من الأمراض المخيفة التي تُقلق الأهل وتضعهم في دوامةٍ طويلة من العلاجات والمعاناة قبل عدة عقودٍ ماضية؛ لكن التقدم الطبي الحاصل في وقتنا الحالي، وسعي الباحثين لإيجاد علاجاتٍ ناجعة وفعالة في هذا الخصوص، أسهم بشكلٍ كبير في تخفيف حدة هذا المرض ووطأته على المرضى وأهاليهم على حد سواء.
بمناسبة اليوم العالمي للثلاسيميا الموافق 8 مايو، سنتطرق في مقالة اليوم إلى عدة نقاط؛ أولها بالتأكيد التعريف عن المرض وأعراضه؛ ثم الحديث عن هذا المرضفي منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وكيفية الاهتمام بالمرضى المصابين به فيها؛ أما أخر فقرة، فستُخصص للحديث عن العلاجات الجديدة والمتقدمة لهذا المرض.
ما هو مرض الثلاسيميا؟
هو اضطرابٌ وراثيفي الدم، وأحد أكثر هذه الاضطرابات شيوعًا في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بسبب تقليد زواج الأقارب في بعض الدول. وينتج مرض الثلاسيميا عن طفراتٍ جينية تؤثر على إنتاج الهيموجلوبين وتُسبَب انخفاض مستوياته في الدم، والذي يُعدَ البروتين المسؤول عن حمل الأكسجين في خلايا الدم الحمراء؛ وبالتالي يُشكَل هذا المرض تحديًا كبيرًا للأفراد والعائلات على حد سواء. إذ أنه في حين أن بعض الأفراد قد لا يعانون من أي أعراض (الثلاسيميا الصغرى)، إلا أن المصابين الآخرين قد يواجهون مضاعفاتٍ خطيرة مثل التعب وفقر الدم وتأخر النمو والشحوب (الثلاسيميا الكبرى).
وتشير تقديرات منظمة الصحة العالمية إلى أن نحو 5% من سكان العالم يحملون مورثات اضطرابات الهيموجلوبين، وخاصةً مرض الخلايا المنجلية والثلاسيميا؛على الرغم من أن هذا الأمر لا يعني بالضرورة إصابتهم بالمرض. بالإضافة إلى ذلك، فإن التقديرات تشير إلى أن نحو 300 ألف طفل يولدون سنويًا مع اضطرابات هيموجلوبين شديدة.
يُعدَ فقر الدم المنجلي والثلاسيميا بيتا من الأمراض الوراثية الناتجة عن اضطراباتٍ في الهيموجلوبين الذي يعتبر البروتين أحمر اللون المسؤول عن نقل الأكسجين في الدم، كما ذكرنا آنفًا. وفي حالة فقر الدم المنجلي، تؤدي طفرةٌ جينية إلى تكتل الهيموجلوبين غير الطبيعي مع بعضه البعض، ما يجعل خلايا الدم الحمراء منجلية الشكل؛ في حين يؤثر مرض الثلاسيميا بيتا على قدرة الجسم على إنتاج الهيموجلوبين. وتُعتبر الهند ودول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من بين الدول ذات أعلى مستويات الإصابة بهذين المرضين.
أكثر الأعراض المرتبطة بالثلاسيميا أوردها موقع وزارة الصحة السعودية كالتالي:
- فقر الدم.
- التعب الشديد.
- الضعف وضيق التنفس.
- عدم انتظام ضربات القلب (خفقان).
- شحوبٌ في الجلد الناتج عن نقص الهيموغلوبين.
- زيادة الحديد في الجسم ناتج عن عمليات نقل الدم المنتظمة المستخدمة لعلاج فقر الدم.
- تأخر النمو.
- ضعف العظام والهشَّة (هشاشة العظام).
- انخفاض الخصوبة.
وفي حال عدم علاجه بسرعة أو بفعالية كبيرة، فإن مرض الثلاسيميا يمكن أن تكون له مضاعفاتٌ خطيرة تتمثل في الإصابة ببعض الأمراض؛ منها أمراض القلب والكبد، نتيجة نقل الدم المنتظم والذي قد يتسبب في تراكم الحديد بالدم ما يُلحق الضرر بالأعضاء والأنسجة، خاصةً القلب والكبد. إضافةً إلى زيادة خطر العدوى وهشاشة العظام.
كيف يتم الاهتمام بمرض الثلاسيميا في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؟
يهدف اليوم العالمي للثلاسيميا إلى رفع مستوى الوعي حول هذه الحالة، والسعي للوصول إلى علاجٍ مناسب. ويُسلّط موضوع هذا العام، "تمكين الحياة، واحتضان التقدم: علاج الثلاسيميا المُنصف والمُتاح للجميع"؛ الضوء على أهمية ضمان حصول الأفراد من جميع الخلفيات على الرعاية التي يحتاجون إليها ليعيشوا حياةً طبيعية.
ويتضمن التعايش مع مرض الثلاسيميا تحدياتٍ عديدة تشمل كلَ من إدارة الأعراض، والتعامل مع عمليات نقل الدم المتكررة، ومعالجة المضاعفات المُحتملة مثل ارتفاع مستويات الحديد في الدم وزيادة خطر الإصابة بالعدوى، وفقًا لكلية الطب بجامعة سانت جورج في غرينادا التي تُشجع الأفراد والمؤسسات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا؛ للتعرف على مرض الثلاسيميا، واتخاذ الإجراءات اللازمة لدعم الأفراد والعائلات، والعمل على بناء مستقبلٍ لا يُمثّل مرض الثلاسيميا فيه تحديًا صحيًا كبيرًا في المنطقة وجميع أنحاء العالم. وبالتالي، يؤكد العبء الجسدي والعاطفي والمالي للمرض على الأهمية الكبيرة للعلاج الفعال وتوافر خدمات الدعم اللازمة للمرضى.
من هنا تُعتبر الوقاية أمرًا بالغ الأهمية في معالجة مرض الثلاسيميا، إذ تُمثَل الاختبارات الجينية والاستشارات الطبية أدوات أساسية للتخفيف من خطر الإصابة بالثلاسيميا الكبرى.
ووفقًا لدراسة أجرتها المكتبة العامة للعلوم (PLoS)، فإن ارتفاع معدل انتشار حاملي مرض الثلاسيميا بين السكان يُشكَل مصدر قلقٍ للصحة العامة؛ ويعني ذلك أن هناك فرصةً بنسبة 25% لإنجاب طفلٍ مصاب بالثلاسيميا الكبرى في حالة حدوث تزاوجٍ بين شخصين حاملين للمرض، وهو ما يؤدي بدوره إلى زيادةٍ محتملة في عدد حالات الإصابة بالثلاسيميا الكبرى. وفي هذا الصدد، تبذل دولة الإمارات العربية المتحدة جهودًا هائلة لرفع مستوى الوعي العام وتحديد حاملي مرض الثلاسيميا. ففي عام 2008، أطلقت حكومة دولة الإمارات حملةً وطنية لتعزيز الفحص قبل الزواج. ومنذ عام 2012، أصبح فحص ما قبل الزواج إلزاميًا لجميع المُقبلين على الزواج؛ إذ يقدم هذاالفحص نظرةً عامة وراثية غير توجيهية واستشارةً للأزواج المُعرضين للخطر.
يشمل علاج الأفراد الذين يعانون من المرض عادةً نهجًا متعدد الأوجه، والذي يتضمن عمليات نقل الدم، والعلاج باستخلاب الحديد (Iron Chelation Therapy)، والتعديلات الغذائية، والمُكملات الغذائية لإدارة الأعراض بشكلٍ فعال.ونظرًا لطبيعته كاضطرابٍ في الدم، يقع الثلاسيميا ضمن اختصاص المحترفين من أطباء أمراض الدم.
ما هي أحدث العلاجات لمرض الثلاسيميا في الإمارات؟
أصبح المقر الرئيسي لمستشفى كليفلاند كلينك، أحد المراكز العالمية القليلة الحاصلة على ترخيص تقديم ثلاثة علاجاتٍ وراثية لمعالجة المصابين بفقر الدم المنجلي والثلاسيميا بيتا؛الأمر الذي سيُسهم في تحسين جودة حياة المرضى وحصولهم على علاجٍ وظيفي في أغلب الحالات.
وبحسبالدكتور ربيع حنا، أخصائي أمراض الدم والأورام، ومدير برنامج زراعة الدم ونخاع العظام في مستشفى كليفلاند كلينك للأطفال: "تتسم هذه السُبل العلاجية الجديدة بقابلية تحمَل المرضى لها بشكلٍ جيد، وقدرتها على إحداث تحولٍ ملموس في حياتهم؛ كما أنها تُمكّن الأفراد من التحرر من الآثار المُنهكة في كثير من الأحيان لهذه الأمراض وطرق علاجها التقليدية مثل عمليات نقل الدم المتكررة التي قد تنطوي على مخاطر زيادة الحديد، وتلف الأعضاء."
المعروف أن كلًا من فقر الدم المنجلي والثلاسيميا يرتبطان بمضاعفاتٍ تمتد طوال الحياة، وتتسبب بإحداثٍ ضرر في أعضاء متعددة بالجسم؛ إلى جانب إمكانية الإصابة بأمراضٍ مُصاحبة تؤثر على جودة حياة المرضى، ما قد يؤدي في نهاية المطاف إلى قصر أعمارهم. وكان العلاج الوحيد المتوافر حتى الآن، هو نقل الدم أو زرع النخاع؛ لكن العثور على مُتبرعٍ مناسب كان صعبًا في الكثير من الأحيان، كما أن هذا العلاج يترافق مع عدة تعقيداتٍ بسبب إمكانية الإصابة بداء تفاعل الطُّعم حيال الثوي (GVHD) الناتج عن التفاعل المناعي بين المُتبرع والمتلقي (المريض). وبالمقابل، فإن العلاجات الجديدة تعمل عبر استخراج الخلايا الجذعية المُنتجة للدم من المريض نفسه، ثم تعديل أو إضافة مُورثات مُنتجة لخلايا دمٍ حمراء طبيعية من الناحية الوظيفية، وإعادة زرع هذه الخلايا الجذعية المُنتجة للدم في المريض؛ ما يلغي بالتالي الحاجة إلى إيجاد مُتبرعٍ مُطابق، أو استخدام أدويةٍ لتثبيط المناعة. ما يُقلَل بالتالي من خطر رفض الجسم للطعم المزروع وتجنب مضاعفات داء تفاعل الطُّعم حيال الثوي (GVHD).
سيقوم مستشفى كليفلاند كلينك بمعالجة الأطفال والراشدين، باستخدام واحدةٍ من ثلاث طرقٍ علاجية يتم خلالها إضافة أو استبدال المُورثات المُصابة في الخلايا الجذعية. وتقوم أحدث الطرق العلاجية، ExagamglogeneAutotemcel [Casgevy]، بمعالجة فقر الدم المنجلي والثلاسيميا بيتا لدى الأطفال من عمر 12 عامًا فما فوق والراشدين. وحصلت هذه الطريقة العلاجية في يناير من العام الجاري، على الموافقة لاستخدامها في علاج مرض فقر الدم المنجلي؛ كما حصلت في ديسمبر 2023 على الموافقة لاستخدامها في علاج الثلاسيميا بيتا المعتمدة على نقل الدم، وهي تُعتبر أول دواءٍ يحصل على الموافقة لاستخدامه في الولايات المتحدة ويستخدم أداة التكرارات العنقودية المتناظرة القصيرة منتظمة التباعد (CRISPR) للتعديل الوراثي والتي حصل مخترعوها على جائزة نوبل للكيمياء في عام 2020.
أما الأسلوبين العلاجيين الآخرين فهما: LovotibeglogeneAutotemcel [Lyfgenia]، الذي حصل على موافقة هيئة الغذاء والدواء الأمريكية في ديسمبر من العام الماضي، ويتم استخدامه لعلاج المرضى المصابين بفقر الدم المنجلي ممن يبلغون 12 عامًا من العمر فما فوق؛ وBetibeglogeneAutotemcel [Zynteglo]، الذي حصل على الموافقة في عام 2022 لعلاج الأطفال والراشدين المصابين بالثلاسيميا بيتا المعتمدة على نقل الدم.
وقال الدكتور حنا في تعليقه على هذه العلاجات: "لقد أظهرت التجارب السريرية نجاحًا ملموسًا لهذا العلاج الذي يُقدَّم إلى المرضى لمرةٍ واحدة في حياتهم، مع معدلات شفاءٍ وظيفي تزيد عن 90% بكثير، وتتمثل إما بعدم الحاجة إلى نقل دمٍلدى مرضى الثلاسيميا أو البقاء دون ألم عند مرضى فقر الدم المنجلي. ولكن يجب على المرضى المُحتملين إدراك حقيقة أن هذه الرحلة العلاجية مؤلفةٌ من عدة مراحل، ولذلك فإن المراكز التي لديها الخبرة الشاملة والمتخصصة لتقديم العلاج اللازم قليلة. ونحن نعمل مع بعض المستشفيات في مناطق أخرى، حتى يتمكن المرضى الدوليون من الخضوع للمراحل الأولية من العلاج في دولهم وذلك قبل إتمام العلاج في منشآتنا."
ما تفاصيل العلاجات الجديدة للثلاسيميا؟
تمتد المرحلة التحضيرية الأولية لشهرين أو ثلاثة أشهر، وتُركَز على تهيئة الجسم لأخذ الخلايا الجذعية، وذلك من خلال التقليل من أي التهاباتٍ في نخاع عظم المرضى. ويمكن إعطاء بعض الأدوية أو إيقاف بعضها، كما قد يحصل المرضى على عمليات نقل دمٍ إضافية. بعد ذلك، يقوم المرضى بزيارة منشآت كليفلاند كلينك لجولةٍ أو جولتين، من أجل أخذ الخلايا الجذعية منهم؛ حيث يجري إرسال الخلايا الجذعية المأخوذة إلى شركةٍ خارجية للقيام بالتعديل الوراثي. في هذه المرحلة، تتم إضافة المُورثة القادرة على إنتاج هيموجلوبين طبيعي أو استبدالها بالمُورثة المعيبة في الخلايا الجذعية المأخوذة من المريض. وتخضع الخلايا المُعدلة بعد ذلك إلى اختبار ضمان الجودة الذي يمتد لشهرين إضافيين؛ وبحلول نهاية تلك الفترة، يخضع المرضى للعلاج الكيميائي على مدى بضعة أيام، لتدمير ما تبقى من نخاع العظم وإفساح المجال لنمو الخلايا التي تمَ إصلاحها والتي سيتم زرعها مرةً أخرى في الجسم.
أما في المرحلة الأخيرة التي تشتمل على البقاء في المستشفى لفترةٍ تتراوح ما بين أربعة إلى ستة أسابيع، فخلالها سيتم زرع الخلايا ويخضع المريض إلى المراقبة الدقيقة تحسبًا لأي آثارٍ جانبية. وأوضح الدكتور حنا: "نستخدمُ في العلاج الكيميائي عقارًا واحدًا هو (بوسولفان) وذلك للتخلص من نخاع العظام القديم وتوفير المساحة اللازمة للخلايا الجذعية الجديدة المُعدلة. وتعتبر هذه الطريقة في الأساس عملية زرعٍ ذاتي، أي أنها تستخدم خلايا المريض نفسه؛ لذلك لا يحتاج المرضى إلى تناول أدوية لتثبيط أجهزتهم المناعية، كما أنها لا تنطوي على مخاطر الإصابة بداء تفاعل الطُّعم حيال الثوي (GVHD) والذي تقوم خلايا نقي العظام أو الخلايا الجذعية للمتبرع فيه بمهاجمة جسم المتلقي."
في الختام، لا يسعنا سوى التمنَي على الجميع القيام بالفحوصات الطبية اللازمة للتشخيص المبكر لأية أمراض يمكن أن نصاب بها نحن أو أطفالنا، خاصةً مرض الثلاسيميا بين المتزوجين من الأقارب أو الحاملين للمرض أو الجين المسبب للمرض. كي نضمن لهؤلاء الملائكة الصغار حياةً طويلة ومديدة ملؤها الصحة والسعادة والاستقرار، لا الحاجة للخضوع للعلاج لفتراتٍ طويلة من حياتهم تسلبهم أجمل الأوقات والتجارب والذكريات مع عائلاتهم وأحبتهم.
وكما أن التطعيمات ضروريةٌ لتحصين أولادنا من الأمراض، فإن فحص مرض الثلاسيميا ضرورةٌ أيضًا؛ ولا داعي للخوف من تداعياته بعد اليوم، في ظل وجود علاجاتٍ جديدة وأكثر فعالية ستضمن لهم حياةً صحية.