يخطو بنا نحو الصحة والرفاه ألف خطوة: كيف يساعد التطور الطبي في توقع الأمراض لكل شخص
في عالمنا اليوم، أصبح الذكاء الاصطناعي أكثر من مجرد تطورٍ تقني؛ فهو القوة الدافعة وراء التحولات الكبيرة في العديد من القطاعات الحيوية، لا سيما الرعاية الصحية.
والمثير للاهتمام هو القوة الهائلة التي يمتلكها الذكاء الاصطناعي في تحسين جودة حياة الأفراد؛ فالتقنيات التنبؤية المدعومة بالذكاء الاصطناعي تُمثَل نقلةً نوعية في الرعاية الصحية، إذ تتيح القدرة على التنبؤ بالحالات الصحية قبل حدوثها أو الكشف عنها في مراحلها المبكرة، ما يسمح بالتدخل السريع وإنقاذ الأرواح في وقتٍ قياسي. لكِ أن تتخيلي عزيزتي، النتائج المترتبة على هذه القدرة ومدى تأثيرها على صحتنا، في حال تمكَننا من السيطرة على أمراضٍ خطيرة مثل أمراض القلب أو السرطان قبل أن تتفاقم. هذا هو المستقبل الذي تعمل العديد من المؤسسات الصحية حول العالم على تحقيقه.
هذا وأكدَ خبراء في مجال الذكاء الاصطناعي، أهمية استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي للتنبؤ بأعراض الأمراض الخطرة والمُزمنة، خصوصًا أمراض القلب والأوعية الدموية؛ مُشدَدين على أن استخدام هذه الأدوات سيُغيَر صورة الخدمات الصحية التقليدية في المستقبل القريب.وقال مشاركون في منتدى الذكاء الاصطناعي والتحول في الرعاية الصحية الذي أُقيم في دبي خلال شهر أكتوبر الماضي، إن تقنيات الذكاء الاصطناعي تُمكَن الأطباء من التنبؤ بالنمط الصحيح لحياة المرضى واحتياجاتهم العلاجية والغذائية.
كيف نستفيد من هذه التطورات على الصعيد الشخصي؟
ربما تكونين على دراية عزيزتي، بمجموعةٍ من النصائح المهمة لعيش حياةٍ صحية؛ مثل مراقبة وزنكِ وممارسة الرياضة وتناول الأطعمة المُغذية والامتناع عن التدخين. ولكن ماذا لو كان بإمكانكِ الجمع بين عوامل نمط الحياة هذه،مع مجموعةٍ من المُتغيرات الأخرى، لمعرفة خطر التعرض لأمراض بعينها للمساعدة في اكتشافها وعلاجها مبكرًا أو الوقاية منها بشكلٍ تام؟ يشرح فيكتور أورتيجا، دكتور في الطب وحاصل على درجة الدكتوراه، المدير المساعد لمركز مايو كلينك للطب الفردي في ولاية أريزونا، كيف يقترب العلم حثيثًا من جعل مثل هذه التنبؤات الصحية الشخصية مُمكنة.
تقنيات الجينوم المتطورة تُسهَل إمكانية التنبؤ بالأمراض
يقول الدكتور أورتيجا: "هذه التوجيهات الشخصية المُخصَصة، والتي لم يكن ممكنًا تصوَرها بالأمس، أصبحت اليوم مُمكنةً بشكلٍ متزايد؛ بفضل التقنيات الجديدة والمتطورة على مستوى الجينوم والتي تجمع البيانات التي تغطي الجينومات بكاملها. حيث تُجمع النتائج المُركبة من مجموعةٍ من البيانات، من آلافٍ إلى مئات الآلاف من مُتغيرات تسلسل الحمض النووي للشخص. ويتسم هذا النوع من البيانات الكبيرة على مستوى الجينوم بإمكانية التنبؤ بخطر التعرض للأمراض، مثل أمراض القلب والسكري والربو وأنواعٍ معينة من السرطان."
ويضيف: "تخيَلي إذا كنتِ تعلمين بأهبتكِ الوراثية للإصابة بنوبةٍ قلبية في الخمسينيات من عمركِ، أو إذا كنتِ ضمن أعلى 5% من السكان عرضةً لخطر الإصابة بالسرطان أو داء السكري بناءً على بياناتِ من الجينوم الكامل الخاص بكِ. بفضل هذه المعرفة، يمكنكِ اتخاذ خياراتٍ مدروسة تخص نمط الحياة، وتلقَي فحوصاتٍ مُعززة للتخفيف من هذا الخطر."
باعتباره طبيب رئة وعالم جينوم، يقود الدكتور أورتيجا الجهود الرامية إلى بث حياةٍ جديدة في التطورات المُحقَقة في مجال الطب الدقيق. حيث تنبع مهمته من التزامه العميق بالمساواة في مجال الصحة، والتي استلهمها من جدته. "توفيت جدتي بسبب الربو، وما كان ينبغي لذلك أن يحدث. كانت من بورتوريكو مثلي، والبورتوريكيون لديهم أعلى معدلات للإصابة بالربو من حيث الشدة ومعدل التكرار مقارنةً بأي مجموعةٍ عرقية أخرى في العالم"، يضيف الدكتور أورتيجا. "كما أنهم يُمثَلون أقل من 1% من الأشخاص المُشاركين في الدراسات الجينية. لذا، جعلتُ تطوير علاجاتٍ وتشخيصاتٍ لأشخاص مثل جدتي، ولجميع الناس، رسالتي في الحياة."
مُتغيرات جينية تساعد في تقدير الإصابة بالأمراض
لدى كل فردٍ منا ملايين المُتغيرات الجينية، ولكلَ منها تأثيرٌ صغير. إلا أن هذه المُتغيرات مُجتمعةً، قد تزيد من خطر التعرض للإصابة بحالةٍ مرضية ما. وتُقدِّر درجة المخاطر متعددة الجينات المخاطر الإجمالية المُعرَض لها شخصٌ ما، للإصابة بمرضٍ، عن طريق تراكم التأثيرات الصغيرة للمُتغيرات الموجودة في الجينوم الكامل للفرد.
لا تُستخدم درجات المخاطر مُتعددة الجينات لتشخيص الأمراض. فبعض الأشخاص الذين ليس لديهم درجة خطورةٍ مرتفعة لمرضٍ معيَن، لا يزالون مُعرَضين لخطر الإصابة بالمرض أو قد يكونون مُصابين به بالفعل. بينما قد لا يُصاب الأشخاص الآخرون ذوو درجات الخطورة المرتفعة بالمرض أبدًا. ويمكن أن يكون لدى الأشخاص الذين لديهم نفس المخاطر الجينية، نتائج مختلفة اعتمادًا على عوامل أخرى؛ مثل نمط الحياة الذي يُحدَد التعرضات البيئية على مدى الحياة، والتي تُسمى أيضًا مقياس التعرض.
يقول الدكتور أورتيجا إن الوصول إلى المرحلة التي يتمكن فيها جميع الأشخاص من معرفة درجات مخاطرهم متعددة الجينات، سوف يتطلب أساسًا متينًا من أبحاث "الأوميكس" ومجموعات البيانات والتقنيات المُتطورة، والمزيد من الاكتشافات للروابط بين الجينات والأمراض - وكلها جوانب تقع ضمن خبرة فريقه وقدراته.
والأوميكس هو مجالٌ ناشئ مُتعدد التخصصات للعلوم البيولوجية، يشمل علم الجينوم وعلم البروتيوميات وعلم ما فوق الجينوم وعلم النسخ الوراثي وعلم الأيض وغيرها المزيد.ويضيف "سيتطلب الأمر قدرًا كبيرًا من العمل والتخطيط، ولكنه قطعًا الطريق إلى المستقبل." وفي الأمد القريب، يُخطَط الدكتور أورتيجا لنقل المزيد من الاكتشافات الجينومية من مختبرات الأبحاث إلى العيادات؛ إذ يمكن أن تُساعد بيانات الأوميكس في تحديد المُسببات الجزيئية لمرض الشخص، بالإضافة إلى المؤشرات الحيوية التي يمكن أن تؤدي إلى تطوير علاجاتٍ وتشخيصاتٍ مُوجَّهة.
لقد مكَّنت الاكتشافات الحديثة في مجال علم الجينوم، في مركز الطب الفردي التابع لمايو كلينك العلماء من التنبؤ بالاستجابة لمضادات الاكتئاب لدى الأشخاص المصابين بالاكتئاب، واكتشاف استراتيجيةٍ علاجية مُحتملة لسرطان نخاع العظم. واستخدم العلماء أيضًا الجينومات لتحديد الاختلافات الجينية التي قد تزيد من خطر التعرض للإصابة الشديدة بمرض كوفيد 19، واكتشاف طرقٍ مُحتملة للوقاية من الأورام الدِبقية وعلاجها، فضلًا عن كشف الغموض الجيني للاضطراب النمائي العصبي النادر.
ويعمل الدكتور أورتيجا أيضًا، مستفيدًا من سنوات خبرته السريرية الواسعة في علاج المرضى المُصابين بأمراض الجهاز التنفسي الحادة، على توسيع نطاق الاختبارات الجينومية لتشمل مجموعةً أوسع من الأمراض. وهو يُسلَط الضوء على البرنامج التعاوني للأمراض النادرة وغير المُشخَصة، باعتباره نموذجًا فعالًا يأمل بالتوسع فيه.
يعمل برنامج الأمراض النادرة وغير المُشخَصة على إشراك فِرق الرعاية الصحية بشكلٍ استباقي، عبر الممارسات السريرية في مايو كلينك، لإجراء اختباراتٍ جينية استهدافية للمرضى المُشتبه إصابتهم بمرضٍ وراثي نادر. ويقول إن توسيع هذه الاستراتيجية لاستيعاب المزيد من الأمراض، سيساعد في بناء جسور التعاون عبر أقسام مايو كلينك، وتثقيف المزيد من الأطباء حول علم الجينوم. وقد يضمن ذلك أيضًا إتاحة اختبارات التسلسل الجينومي الأكثر فعاليةً للمرضى، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى تحسين رعاية المرضى ونتائجهم.
في الخلاصة؛ فإن تطور الطب والعلوم في وقتنا الحالي، وإدخال بعض التقنيات الثورية مثل الذكاء الاصطناعي، بات من العوامل المُساهمة بشكلٍ كبير وفعال في تحسين حياة الإنسان. وذلك من خلال إمكانية تنبؤ إصابته بأمراضٍ معينة دون غيرها، بفضل الجينوم الخاص به.
وما هذه التطورات الثورية، بجانب أسلوب الحياة الصحي وتجنَب التأثيرات البيئية السيئة قدر الإمكان، إلا وسيلةٌ ناجعة لنا للتنعم بحياةٍ صحية ورفاهٍ دائمين. وهو ما يجب أن نشكر الله عليه دومًا، كوننا نحيا في زمنٍ تتقدم فيه جودة الحياة كل يوم ألف خطوة.