
الغذاء كدواء: كيف تؤثر خياراتنا الغذائية على صحتنا للمدى الطويل؟
الغذاء ليس مجرد وقود، إنه ثقافة وهوية؛ قديماً قال أبقراط: "ليكن غذاؤك دواؤك، وليكن دواؤك غذاؤك"، أما لودفيك فيورباغ فقال جملته الشهيرة: نحنُ ما نأكل We are what we eat. كل قضمةٍ هي اختيار نحو الحياة أو نحو المرض؛ الغذاء الجيد هو أول أشكال الحب الذي نمارسه تجاه أنفسنا والآخرين، والصحة تبدأ من المطبخ لا من الصيدلية.
على مرَ القرون، تجاوزت أهمية الغذاء البقاء البيولوجي؛ فقد شكّل الغذاء الحضارات، وألهم الفنون، وأعاد تشكيل العلاقات الاجتماعية والاقتصادية. ارتبط الغذاء بالفلسفة والتبادلات التجارية والاقتصادية، وحتى ضمن المجال السياسي؛ في مصر القديمة، كان الخبز والبصل رمزين للبساطة والبركة، وكان الطعام يُقدم للآلهة في المعابد. وفي اليونان، ارتبط الغذاء بالفلسفة؛ فكان يُنظر إليه كوسيلة لتحقيق التوازن بين الجسد والروح، أما في الصين، فقد شكّلت مبادئ الين واليانغ أساسًا لفهم التغذية كطاقةٍ متوازنة.
في العصور الوسطى، تحوَل الغذاء إلى تعبيرٍ صارخ عن الطبقة الاجتماعية؛ فاللحوم والتوابل للأغنياء، والحبوب للفقراء. لتبرز الصين بين العديد من الدول بمنحى مغاير، حيث استخدم الطب الشعبي الغذاء كعلاجٍ، مستندًا إلى نظرية الأخلاط الأربعة.
في عصر النهضة والثورة الصناعية، تحول الغذاء إلى علمٍ وتجارة؛ إذ بدأ تصنيف الأغذية علميًا، وظهرت كتب الطهي كأدواتٍ ثقافية. غيَرت الثورة الصناعية نمط الإنتاج الغذائي، فظهرت المعلبات والمصانع؛ ليصبح الغذاء سلعةً، ويفقد بعضًا من رمزيته الروحية.
أما في عصرنا الحديث، فقد اتخذ الغذاء منحى إيجابي بعض الشيء، بالعودة إلى الجذور؛ حيث بات يُمثَل الهوية والصحة للأفراد، وظهرت حركاتٌ مثل Slow Food كرد فعلٍ على السرعة والتجهيز. وبات الغذاء اليوم يُستخدم كأداةٍ للوعي الصحي، الاستدامة، وحتى المقاومة السياسية (كالمزارع العضوية، النباتية، والعدالة الغذائية).

يتضح مما تقدم، أن للغذاء دورٌ وأهميةٌ كبيرة في تشكيل هوية الناس وصحتهم، اليوم وغدًا؛ وعليه فإن للخيارات الغذائية اليومية أثرٌ كبير على الصحة لا يمكن تجاهله. وفي عالمٍ تغمره الحميات الغذائية الرائجة والادعاءات التسويقية المُضللة، تدعو الدكتورة جاكلين زان فرايز، أخصائية في مجال التغذية الوظيفية ورئيسة قسم الابتكار في مؤسسة Shake Your Plants الجميع، للتوقف للحظة والعودة إلى الأساسيات - إدراك أن ما نتناوله يوميًا قد يُحسّن صحتنا أو يُدمرها؛ وهو ما يطرح السؤال التالي..
ما هو دور التغذية في الرعاية الصحية؟
بحسب فرايز، فإن الغذاء هو بالفعل دوائنا؛ تنبع العديد من الأمراض المزمنة اليوم من سوء التغذية وخيارات نمط الحياة. ويمتلأ نظامنا الغذائي بالأطعمة المُصنّعة بشكلٍ مفرط، مما يجعل الخيارات الطازجة والصحية والنقية أقلّ سهولةً وأقلّ تكلفةً، خاصةً لمن لديهم ميزانية محدودة.
في كثيرٍ من الأحيان، لا يكون إجمالي الطاقة في استهلاكنا اليومي هو الشاغل الرئيسي؛ بل نميل إلى استهلاك سعراتٍ حرارية زائدة مع نقصٍ في العناصر الغذائية، وعادةً ما يكون النظام الغذائي اليوم غنيًا بالسعرات الحرارية وفقيرًا بالمكونات الغذائية الأساسية مثل الفيتامينات والمعادن ومضادات الأكسدة وغيرها، وعلى رأسها الأطعمة المُصنَعة.
إذ تُجرّد هذه الأطعمة من المعادن والفيتامينات والألياف والمغذيات النباتية الموجودة في الأطعمة الطبيعية، لتحل محله بدائل صناعية يصعب على أجسامنا امتصاصها والاستفادة منها. ويتسبَب انتشار النشويات المُكررة والسكريات المُضافة في مُعظم الأطعمة المُصنّعة، في حدوث تقلباتٍ حادة في مستويات السكر بالدم، مما قد يُؤدي إلى عدم الاستقرارٍ الأيضي، خصوصًا عند الأطفال والمراهقين ممن يستهلكون هذه الأطعمة بكثرة. ليُشكَل هذا الاضطراب أساسًا للعديد من الحالات المُزمنة مثل زيادة الوزن، ومقاومة الأنسولين، وارتفاع ضغط الدم.
تشير الإحصاءات الحديثة إلى أن الأمراض المزمنة بين الأجيال الشابة (من سن المراهقة حتى الثلاثينات) أصبحت مصدر قلق متزايد عالميًا، نتيجة لتغير أنماط الحياة، التغذية، وقلة النشاط البدني. ما يُخيف حاليًا هو أن الإنسان حول العالم، يعيش حوالي 9.7 سنوات في حالةٍ صحية سيئة بسبب أمراضٍ مزمنة مثل السكري، السمنة، وأمراض القلب.
في منطقة شرق المتوسط مثلًا، بما فيها الإمارات، تُعدَ السمنة والسكري من أبرز الأمراض المزمنة لدى الشباب، نتيجة التغذية الغنية بالسكريات والدهون وقلة الحركة. كذلك لم تعد أمراض القلب حكرًا على كبار السن؛ بل بدأت تظهر لدى الشباب بسبب ارتفاع ضغط الدم، التدخين، والتوتر المزمن. ولا ننسى ارتباط الصحة النفسية بالأمراض المزمنة؛ حيث يُسهم الاكتئاب والقلق في تفاقم الأمراض الجسدية، ويُلاحظ تزايد الارتباط بينهما لدى الأجيال الشابة.
بالتالي؛ لا توجد حلولٌ مُختصرة أو سحرية عندما يتعلق الأمر بالصحة، تؤكد فرايز. فخياراتنا الغذائية اليومية لها تأثيرٌ كبير على صحتنا على المدى الطويل؛ وبدلًا من الانجراف وراء الحميات الغذائية الرائجة والحلول السريعة، دعونا نُركَز على الأساسيات.

من المهم اختيار أطعمة طبيعية وصحية من جميع الأنواع كلما أمكن، لأنها تُوفر العناصر الغذائية التي تحتاجها أجسامنا. ومن خلال مُراعاة نظامنا الغذائي واختيار طعامٍ طازج وحقيقي ومُغذي، يُمكننا الوقاية من العديد من المشاكل الصحية المُزمنة والتمتع بحياةٍ أكثر صحةً وحيوية. وتذكّري عزيزتي، التغييرات الصغيرة والمُستمرة في عاداتنا الغذائية اليومية يُمكن أن تُحدث فرقًا كبيرًا!
ما أهمية الغذاء الصحي في حياة مريضات سرطان الثدي؟
في ردها على هذا السؤال، أكدت أخصائية التغذية الوظيفية الدكتورة جاكلين زان فرايز، أن النظام الغذائي يلعب دورًا حاسمًا في حياة مريضة سرطان الثدي وكذلك الناجية منه. فالتغذية السليمة تدعم الصحة العامة، وتُحسّن الطاقة، وتُعزز عملية شفاء الجسم.
من الأطعمة التي يجب التركيز عليها لهذه الفئة:
1. الفواكه والخضراوات الغنية بمضادات الأكسدة والمغذيات الدقيقة.
2. تُعدّ الخضراوات الصليبية مثل البروكلي وبراعم بروكسل مفيدةً بشكلٍ خاص.
3. تُعتبر البروتينات عالية الجودة والدهون الصحية مهمةً جدًا لمريضات وناجيات سرطان الثدي، بغية تحفيز عملية الإصلاح والشفاء.
4. تنصح فرايز بوجوب طهي الوجبات مع الأعشاب والتوابل المضادة للالتهابات، مثل الكركم والزنجبيل.
5. من الأطعمة التي يجب تجنبها اللحوم المُصنَعة، الكربوهيدرات والسكريات المكررة، الدهون التالفة مثل زيوت البذور، والوجبات المقلية والسريعة (بمعنى آخر، الأطعمة المُصنَعة ككل).
بالنسبة لمريضات السرطان والناجيات منه، يُعدّ التركيز على نظامٍ غذائي متوازن وغني بالعناصر الغذائية أمرًا أساسيًا. ومن خلال اتخاذ خياراتٍ واعية، يمكن لهؤلاء السيدات دعم رحلة علاجهنَ وتعزيز صحتهنَ على المدى البعيد.
ختام القول؛ خيارات الغذاء هي التي تضعنا إما في خانة الأصحاء، أو في قاع المرضى الذي يساعدون على تقصير سنوات حياتهم بسبب الأمراض المزمنة التي تُحيق بهم جراء تناول الغذاء غير الصحي. ويمكن لجميع الناس، خصوصًا مريضات وناجيات سرطان الثدي (بما أننا خلال الشهر الوردي للتوعية حول هذا المرض) التركيز على نمطٍ غذائي صحي، بجانب الرياضة وقلة التوتر وتحسين جودة النوم، للتسلح بالغذاء كدواء ووقاية ضد الأمراض.