عزيزتي فلسطين
بقلم رانية المصري مستشارة للعلامات التجارية وقطع السلع الفاخرة
اسمي رانية المصري، والدي فلسطيني من نابلس، ووالدتي لبنانية. نحن ما يمكنك أن تطلق علينا عائلة شتات. التقى والداي في باريس خلال سبعينيات القرن الماضي، حيث حالفهما الحظّ لينجزا دراساتهما العليا. وفي النهاية هاجرنا إلى كندا. وعلى الرغم من أننا لم نعِش أبدا في أوطاننا، ترعرعنا أنا وأشقائي على حب فلسطين ولبنان.
لم أزر فلسطين يوما، كلّ محاولة لي توقفت بسبب الاضطراب والقلق من سوء معاملة قد أتلقّاها عند الحدود، فسمعت قصصا كثيرة من أصدقاء لي عاشوا هذه التجربة. وبالرغم من كل الصعاب، تمكن أخي الجريء أن يصل إلى نابلس، بصفته طالبا متطوعا مع فريق الصليب الأحمر العاملين في مؤازرة ومساعدة اللاجئين في المخيّمات. لدرجة أن في إحدى الأيام التي كان متواجدا أخي في نابلس، وكان يسير بالقرب من إحدى الجامعات في نابلس استوقفه أحدهم وسأله ما إذا كان نجل رجائي المصري. وهذه قصة لطالما اعتز بها والدي كلما رددناها.
مما لا شك فيه أن والدي زرع فينا حبا وتقديرا لجذورنا. وبالرغم من أن قصصه لطالما كانت تنقطع ولا نهاية فعلية لها، مما جعلني أتساءل دائما عن مدى ألمه وتوقه، وإن كان ثقلهما يتجاوزان طاقته في بعض الأحيان.
كان يبحث دائما عن الجبنة النابلسية ليشويها لنا على الفطار. وكان يردد دائما أشعار محمود درويش المترافقة غالبا مع موسيقى لأمّ كلثوم في الخلفية (وكان يغني أغانيها بنفسه).
وعند حلول كل عيد، كانت والدتي تجمع أصدقاءنا وعائلاتنا في مونتريال في كندا، ونحرص على الاحتفال وإبقاء تقاليدنا حيّة. كان والدي يتّصل بكل فرد من أفراد عائلته ممن يكبره سنّا (هكذا تقتضي التقاليد)، ليتمنى له عيدا مباركا، ويزور من استطاع زيارته. كان يضحك ويذكّرنا بثياب العيد الخاصة به وبعيديّته، فضلا عن المقالب التي كانوا ينفّذونها بأعمام العائلة.
نشأنا ونحن نتوق للانتماء لهذه الأرض والعودة إليها. لطالما أردنا زيارة أرضنا الأم، وأن يتعرّف الناس إلينا من خلال ملامحنا واسم عائلتنا.
فهذه الرغبة والتوق محفوران في كل فلسطيني اليوم، فينا نحن، الجيل الثالث منذ الاحتلال، وفي أولادنا الذين يطرحون أسئلة بريئة مثل: "لماذا الذهاب إلى فلسطين ليس آمنا أو مسموحا؟ لماذا يقول الناس إن فلسطين غير موجودة؟ ولماذا يرمي الأطفال الحجارة؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟".
ليس لدينا إجابات شافية ومنطقية فنبتسم ونغير الموضوع.
لقد كتبتُ هذه الرسالة لفلسطين، أتمنى أن تنال إعجابكم.
فلسطين الغالية.
أستطيع أن أحفرك وشما على ذراعي، وأرتدي شعارك، وأصرخ بأعلى صوتي لأخبر عنك، لكنّني عاجزة عن إنقاذك.
أستطيع أن أتبرع لك، وأن أدعم فنّانيك ومؤسساتك، أتواصل مع إخواني وأخواتي العرب، أبكي وأحلم وتنتابني أحاسيس كثيرة، لكنّني عاجزة عن إنقاذك وحدي.
جمالك وسحرك يحسدهما الكثيرون.
فلسطين الغالية، غزّة الأبية، إحتراقك واختناقك، حبس أنفاسنا. وأفقدنا إيماننا بالعدالة. ونشهد اليوم أبشع صور الجشع، والكذب والشر.
ورغم كل ذلك، حبيبتي فلسطين، نشعر بفخر كبير، نعتز بإيمانك وصمودك وإرادتك الدائمة بالعيش ونروي أساطيرك. نستمع إليك، نشعر بك، نحبّك.
أتدرين ماذا يحدث؟ بالرغم من أنّ الكثيرين خذلوك، إلّا أنّ الكثيرين أيضا واقفون بجانبك يدافعون عن حقوقك. ينتفض الناس في جميع أنحاء الأرض باسمك، يدا بيد يدعمون حقوقك، ودعما للحقّ.
نشأنا على حكايات اجتماعات العيد الجميلة، حكايات نسائك القويات والمثقفات، حكايات تجارتك الغنية وتلالك الخلابة وبُحورك المهدّئة. تعلّمنا لغتك، وتبنّينا ثقافتك وقيمك أينما ذهبنا.
يحاول الآخرون تقرير مصيرك، وأشعر بالألم لذلك. لكنّك تعلّميننا كل يوم معنى الشجاعة وأهمية القتال في سبيل ما هو حق لنا، لننهض مجددا كلما وقعنا.
لم نستطع العيش معك، لكنّك تعيشين فينا جميعا.
حبيبتي غزّة، أطفالك يحرسونك من السماء، ويعلمون أن دمهم لم يذهب سدى. فقدناهم باسم الحرية والعدالة، في مواجهة الشرّ والقمع، ومن أجل بناء مستقبل أكثر إشراقا وأمانا لك ولجميع خلق الله.
لكِ إلى الأبد..
رانية