المرشدة السياحية منى الطريّف لـ"هي": بيئة الإرشاد السياحي بيئة إيجابية ومجتمع الإرشاد متعاون ومرحّب بانضمام المرأة إليه
الرياض - "فيصل البلال" Faisal AlBilal
تصوير: عبدالله المشرف
في لقاء مشوق مع المرشدة السياحية منى الطريّف، المهتمة باكتشاف المدن السياحية السعودية، وتسعى إلى تعميق معرفة السائح بكنوز السعودية في نقل تجربتها من خلال مواقع التواصل المختلفة. تروي المرشدة منى ل “هي” عن تجربتها في الإرشاد السياحي في السعودية ومستقبل المرأة في هذا المجال.
حدثينا عن بداياتك في الإرشاد السياحي، وما أول معلم سياحي مارستِ فيه المهنة؟
غالبا نعتقد أن بدايات الأشياء هي اللحظات التي فيها أحداث نتذكرها، لكن في الحقيقة البدايات تكون أبعد بكثير من ذاكرتنا القريبة، حب السفر والسياحة في وطني بدأ من طفولتي عندما كنت مع عائلتي نسافر في بداية الإجازة الصيفية إلى المنطقة الغربية، ونقضي فيها فصل الصيف متنقلين ما بين الطائف وجدة ومكة، وأحيانا الباحة وقرى الجنوب، كانت تلك اللحظات مليئة بالحماس للوجهة التي نسافر إليها أثناء تنقلاتنا بالسيارة، وبصفتنا أطفالا كنا نتشوق إليها، لما فيها من متعة اجتماع العائلة، عندما أعود لتلك الذكريات أسمع صوت والدي، رحمه الله، إذا مررنا بالقرى التي نمر بها كل سنة، وهو يردد "الحمدلله على طولة الأعمار والتردد بالآثار"، وحين نعتزم المغادرة من منطقة إلى منطقة أخرى كان يردد: "نزلنا ها هُنا ثم ارتحلنا، وهكذا الدنيا نزولٌ وارتحالُ"، ما بين هاتين العبارتين كانت البداية، لقد تعلمت منهما أن القدرة على التنقل بين الأماكن وتكرار زيارتها هي نعمة تستحق الشكر، وأن الترحال سنة من سنن الحياة. بدايتي في الإرشاد السياحي جاءت من رغبتي في استكشاف مناطق أكثر في السعودية، وأيضا من خبرتي لسنوات في تنظيم رحلات العائلة والأصدقاء، واستمتاعي بالبحث عن الأماكن المميزة، وتنسيق الزيارات لها، ومع تمكين المرأة من قيادة السيارة وقدرتها على الحصول على رخصة الإرشاد السياحي، وممارسة هذه المهنة، وجدت أنها فرصة رائعة لأعمق معرفتي بوطني، وأصقل مهاراتي في هذا المجال، وأول معلم مارست المهنة فيه هو بكل فخر حي الطريف التاريخي بالدرعية.
كيف تصفين بيئة الإرشاد السياحي للمرأة في السعودية؟
من تجربتي الشخصية، أجد بيئة الإرشاد السياحي بيئة إيجابية، ومجتمع الإرشاد متعاونا ومرحّبا بانضمام المرأة إليه، وهي تلقى الدعم والمساندة من زملائها الرجال وزميلاتها السيدات، ومن الجهات المسؤولة، إضافة إلى أن تواجد المرأة بصفتها مرشدا سياحيا، وخاصة أمام السياح الأجانب، ينفي كل الاعتقادات السلبية التي قد تكون لديهم عن وضع المرأة في السعودية، وكونها وصلت إلى ممارسة الإرشاد يعني بالضرورة أنها تمكّنت من مراحل عديدة سبقت هذه المرحلة، وهو أمر يعكس صورة حقيقية عن التغيير الإيجابي الذي نعيشه.
دخول المرأة السعودية في عالم الإرشاد السياحي أضاف إليها الكثير، كيف ترين مستقبل الإرشاد للمرأة في السعودية؟
هذا المجال، من وجهة نظري، هو من أمتع المجالات في الحياة عموما، لكنه كغيره يتطلب الاستعداد له بالمعرفة والمهارات، واهتمام الدولة بقطاع السياحة، وكونها أحد أهم البنود في رؤية 2030 يجعل الإرشاد السياحي من المهن التي سيستمر الطلب عليها في المستقبل ولا غنى عنها، لذلك فأنا أرى أنه مجال واعد للمرأة السعودية، ويستحق أن تأخذه الطالبات المقبلات على التخصص الجامعي بعين الاعتبار كأحد التخصصات المطروحة للالتحاق به ودراسته كعلم ومن ثم ممارسته، الإرشاد السياحي مجال حي وتفاعلي، وهو خيار رائع للأشخاص الذين لا يحتملون البقاء في المكاتب وأداء الأعمال الروتينية. أن تكوني مرشدة سياحية ناجحة يعتمد على المهارات المكتسبة أم عمق المعرفة في المعالم السياحية؟ كلاهما ضروري للمرشد السياحي، فلا يمكن للمرشد الذي يفتقد مهارات التواصل مثلا أن يقدم المعلومة الصحيحة بشكل جيد، وفي الوقت نفسه مهما بلغت لباقة المرشد إذا لم تكن معلومته صحيحة، فإنه لن يكون محل ثقة السائح، لذلك فإن الجمع بين المعرفة والمهارات أمر مطلوب لكي ينجح المرشد، وهو أمر يجب عليه أن يستمر باكتسابه والبحث عنه من خلال تحديث معلوماته باستمرار وتطوير ذاته، والاطلاع على أفضل الممارسات في هذا المجال.
ما المهارات التي تحتاج إليها كل امرأة لكي تكون مرشدة سياحية ناجحة؟
تحتاج المرأة إلى المهارات التي يحتاج إليها أي مرشد سياحي بغض النظر عن جنسه، وأحد شروط الحصول على رخصة الإرشاد السياحي اجتياز الدورات التدريبية النظرية والميدانية التي تقدمها وزارة السياحة لتأهيل المرشدين، وإكسابهم المهارات اللازمة لممارسة المهنة. على سبيل الإيجاز أستطيع أن أقسم المهارات إلى نوعين، مهارات شخصية ومهارات فنية، ومن أهم المهارات الشخصية القدرة على التواصل الفعّال، سواء التواصل البصري أو اللغوي، بالنظر إلى الشخص وإعطائه كامل الاهتمام ووضوح اللغة أثناء الحديث، أيضا الاهتمام بلغة الجسد من حيث الإيماءات وملامح الوجه، والمحافظة على المسافة الشخصية، ومن المهم جدا احترام جميع الثقافات وتقبل الفروقات. أما المهارات الفنية، فأهمها الاستعداد بالمعلومات الصحيحة والمثرية والإجابة عن الأسئلة بصدر رحب، وإن كانت مكررة، أيضا من المهم التعرف إلى الأشخاص الراغبين في الجولة السياحية لمعرفة اهتماماتهم وخلفيتهم الثقافية وتفهّم احتياجاتهم، وبالتأكيد فإن التنسيق المسبق مع المواقع المخطط لزيارتها شيء ضروري، كل هذه الأمور تساعد المرشد على النجاح ومنح السائح أفضل تجربة.
حدثينا عن بودكاست "ظرف مكان"، وما تأثيره في المهتمين بالثقافة السعودية؟
في البداية أود أن أوضح ما هو "البودكاست" Podcast ، ببساطة هو إذاعة تقدم محتوى صوتيا محفوظا على الإنترنت، وتتميز عن الراديو بإمكانية الاستماع إليها في أي وقت، فالمستمع هو من يحدد متى يستمع، وإلى ماذا يستمع، ويمكن الوصول إلى هذه الإذاعة عبر تطبيقات البودكاست المجانية، مثل أبل بودكاست، وغوغل بودكاست، وساوندكلاود وغيرها، ويوجد توجه عالمي إلى البودكاست، حيث يعتبر من أكثر وسائل الإعلام الجديد تأثيرا، وأعداد المستمعين له في ازدياد مستمر. أما عن بودكاست "ظرف مكان"، فهو مشروع لصناعة المحتوى الصوتي المختص بالسفر والسياحة أسسته في 2019 ، وفي يوليو الحالي يكمل سنته الأولى، نشرنا خلالها مع الشركة المنتجة ثلاثة مواسم، في الموسم الأول ركزنا على سفر المغامرات والرحلات المنظمة، والثاني على المواقع السعودية المسجلة في قائمة التراث العالمي باليونسكو، أما الثالث، فهو عن القرى التراثية، ويتمثل عملنا في تحويل المعلومات القيّمة المكتوبة في الكتب أو المحفوظة في ذاكرة الناس إلى منتج صوتي متوفر على منصة عصرية يتم الوصول إليها بلمسة على شاشة الجوال، نقدم هذا المحتوى في قالب ممتع، ويواكب إيقاع الحياة السريع، فبإمكان الشخص مثلا أن يتعرف إلى النقوش الصخرية المكتشفة في حائل بالاستماع لحلقة "حائل" أثناء الوقت الذي يقضيه بالسيارة متجهاً إلى العمل، هذه المعلومات النوعية تتطلب وقتا في البحث عنها، بينما ستصل إلى المستمع في غضون دقائق، وهدفنا الأسمى هو تعميق معرفتنا نحن السعوديين بوطننا، وتقوية علاقتنا بما نمتلك من مخزون تراثي وثقافي متنوع وربط الأجيال ببعضها، لنحفظ قصتنا من الفقدان. أرى أثر المحتوى الذي نقدمه في كثير من الأشخاص المهتمين بالثقافة السعودية، والمؤثرين في المجتمع الذين استمعوا إلى الحلقات المنشورة، فالمعلومات التي نقدمها بطريقة إبداعية مع ضيوفنا المختصين في مجالاتهم أجدها تنتشر، ويتم تداولها في وسائل التواصل الاجتماعي، ويصلني الكثير من التشجيع والإعجاب بالمحتوى النوعي الذي نقدمه، وحاليا أسعى مع شريكي بدر العيسى للتوسع في المشروع، وتحويله إلى موقع إلكتروني يقدم إضافة إلى المحتوى الصوتي محتوى مرئيا وخدمات أخرى متنوعة، نطمح إلى تبنيه من الجهات ذات العلاقة بالمحتوى الذي نقدمه. "ظرف مكان" بالنسبة لي هو تجربة تعلم كبيرة، اكتشفت من خلالها الكنوز التي تزخر بها المملكة العربية السعودية، كنوز من الأشخاص والأماكن والتاريخ والتراث والآثار، وأحاول بحُب أن أنقلها للجميع.
مع تنوع السياح القادمين إلى السعودية، هل تواجه المرشدة السياحية بعض الصعوبات في توصيل المعلومات إلى المتلقي بسبب اختلاف الثقافة واللغة؟
نعم، أحيانا لا تكون هناك لغة مشتركة بين المرشد والسائح، فيصبح توصيل المعلومة صعبا، لكن التقنية قدمت حلولا ناجعة في هذا الجانب، فبرامج الترجمة أصبحت متوفرة على هواتفنا وهذا يسهل المهمة، لكن قد تواجه المرشدة بعض الأسئلة أو التعليقات السلبية من بعض السياح الذين يحملون أفكارا مغلوطة أو صورة نمطية خاطئة عن السعودية، ونصيحتي لتفادي مثل هذا الموقف أن يكون هناك توضيح للتعليمات في بداية الجولة، ومن ضمنها عدم الخوض في الأمور الجدلية والدينية والسياسية، وإن واجهت المرشدة مثل هذا الموقف، فعليها أن تتعامل بلباقة واحترافية، وتذكّر بالتعليمات، وتركز على مهمتها في الإرشاد وتقديم المعلومات عن الموقع الذي تكون فيه الزيارة، ولا تدخل بتاتا في جدال قد يربك سير الجولة، أو يوتر الجو العام على المجموعة التي ترافقها.
أملج، العلا، حي الطريف التاريخي، ماذا تعني لكِ هذه الوجهات الرائعة؟ وما شعورك بممارسة المهنة فيها؟
هذه الوجهات قريبا ستكون نقاطا مضيئة على خريطة السياحة العالمية، وخاصة أن الحِجر في العلا، وحي الطريف التاريخي هي مواقع تراث عالمي مسجلة باليونسكو، وكلها وجهات أعتز بدعوة الجميع إلى زيارتها، لجمال الطبيعة في أملج، وتنوعها ما بين البحر الأزرق والرمال البيضاء والحرات البركانية، ولعظمة حضارة الأنباط الضاربة في التاريخ والتكوينات الصخرية المدهشة في العلا، ولروعة البناء النجدي والقصور الشامخة في حي الطريف التاريخي، والتي تعكس قوة الدولة السعودية الأولى، جميع هذه الوجهات أفخر بأنها في وطني، وأتشرف بالإرشاد فيها.
حدثينا عن تجربة الهايكنج في "تحدي الباحة للهايكنج" و"تحدي جبال طويق للهايكنج"؟
تجربة الهايكنج بوجه عام كانت في البداية بهدف مشاركة ابني عبدالله في اهتمامه وقضاء وقت نوعي معه والاطلاع على هذا المجال الذي بدأ يظهر شغفه به منذ سن مبكرة، ولكن التجربة تطورت، وأصبحت أنا وعبدالله نطمح إلى خوض التحديات المتاحة، فشاركنا معا في تحدي جبال طويق من تنظيم الاتحاد السعودي للتسلق والهايكنج ونادي مسارات بمسافة 25 كم في مسار جبلي، ثم أصبح الأمر بالنسبة لي تحديا لقدراتي الشخصية ومدى تحملي، فشاركت في رحلة هايكنج إلى النيبال من تنظيم شركة Sweven Trips ، وقطعت فيها أكثر من 55 كم في جبال الهملايا، ثم شاركت في تحدي الباحة لمسافة 15 كم، وجميع هذه التحديات كانت منافسة مع الذات، وليست منافسة مع الغير، وأجمل ما فيها أنها تمنحنا الفرصة لإعادة برمجة أنفسنا والحدود التي نعتقد بأنها سقف التحمل لدينا، وتجعلنا ندرك بأن لدينا قدرات كامنة كل ما نحتاج إليه هو وضعها على المحك لاكتشافها.
كيف كانت تجربة المبيت في خيام بين هضبات "خيبر"؟
خيبر وحرّات خيبر وكهوف خيبر كانت تجربة مدهشة للغاية، لم أتخيل يوما أنني سأخوض تجربة في حياتي كتلك التجربة، قطعنا مع المجموعة في تلك الرحلة بقيادة الكابتن مروان الجهني أحد أطول الكهوف في شبه الجزيرة العربية، وهو كهف أم جرسان بمسافة 1500 م، شاهدنا تكوينات صخرية عجيبة داخل الكهف، وبقايا عظام يقال: إنها فرائس الحيوانات المتوحشة، أما التخييم في منطقة البراكين الخامدة، فهي أشبه بتجربة النوم على سطح كوكب آخر، وخاصة أننا بقينا طوال يومي الرحلة بدون اتصال، فجميع المناطق لم يكن فيها شبكة للجوال، وهذا جعلنا منقطعين فعليا عن كوكب الأرض! لكن طبعا قائد الرحلة لديه هاتف للطوارئ. كانت الحمم البركانية التي سالت من البراكين منذ مئات السنين تكسو المنطقة بالكامل، وتموجات الحمم مع النباتات الربيعية تشكّل لوحة فنية طبيعية على الأرض، وختام الرحلة كان بصعود الجبل الأبيض، وهو أحد أكبر الفوهات البركانية وأجملها، وزيارة قرى خيبر وعيون المياه الجارية وتناول الغداء في النزل التراثية الجميلة.
ماذا أضافت تجربة الإرشاد السياحي إلى منى الطريّف؟
إضافة إلى المعلومات التي اكتسبتُها والالتقاء بأشخاص من ثقافات متنوعة، فإن الإرشاد السياحي يمنحني وقتا ممتعا بعيدا عن الروتين اليومي، كما أعطاني الفرصة لأجعل العالم يرى وطني بعيني، وليس فقط من خلال الجولات السياحية الفعلية التي أجريها، بل حتى من خلال توظيف حسابي الشخصي في إنستغرام الذي أنشر فيه صورا ألتقطها من مختلف مناطق السعودية. وجهة واحدة ترشحينها لكي تكون هي أول زيارة للسائح القادم إلى المملكة. أول وجهة أرشحها هي المتحف الوطني بكل تأكيد، وقد تكون شهادتي مجروحة في المتحف، لأن علاقتي معه علاقة خاصة جدا! فأنا أزوره بشكل متكرر منذ عام 2000 م أي بعد افتتاحه بعام واحد فقط، عندما كنت معلمة لأطفال الروضة، كنت أصطحبهم إليه أثناء الرحلات المدرسية، واستمرت علاقتي به حتى بعد أن أصبحت قائدة مدرسة، فكل سنة أُدرِج المتحف ضمن خطة أنشطة المدرسة، إيمانا مني بأهمية المتاحف وأهمية منح الطفل تجربة زيارة المتحف، لما تحويه هذه التجربة من معلومات ومهارات يكتسبها الأطفال في المتاحف. يحتوي المتحف الوطني على ثماني قاعات تضم أكثر من 3000 قطعة أثرية، وهو جزء من مركز الملك عبدالعزيز التاريخي في حي المربع، ويشمل المركز بعض أهم المعالم في السعودية، مثل قصر المربع الذي كان مقرا للملك عبدالعزيز، طيب الله ثراه، والمباني الطينية التابعة له، ودارة الملك عبدالعزيز التي تحوي متحفا خاصا بمقتنيات الملك عبدالعزيز، وبعض سياراته الكلاسيكية، وأيضا مكتبة الملك عبدالعزيز العامة، إضافة إلى المحيط الخارجي للمركز والحدائق الرائعة والتصميم المعماري الذي تمتزج فيه المباني الحديثة
بالمباني التاريخية، وتشكّل مع بعضها واجهة حضارية مشرّفة ومنطقة آسرة بكل تفاصيلها.
في الختام ما النصيحة التي تقدمها منى الطريّف لكل امرأة مهتمة بالإرشاد السياحي؟
أنصحها بأن تثق بنفسها وبقدراتها، وتبدأ الخطوة الأولى، فلا يوجد أفضل من هذا الوقت لتحويل الاهتمام إلى تخصص ومهنة.