رؤية نقدية ـ لقاء الجوكر وقناوي في "باب الحديد"!
فى رباعيته الشعرية، قال الشاعر "صلاح جاهين":
"أنا قلبي كان شخشيخة أصبح جَرس .. جلجلت به صحيوا الخدم والحرس
أنا المهرج .. قمتو ليه خفتو ليه .. لا فْ إيدي سيف ولا تحت منى فرس..عجبي!!"
مهرج "صلاح جاهين"، صاحب القلب المُجلجل كان مسالماً، سلاحه الضحك والسخرية والحب، ورغم ذلك كان مهيباً مُخيفاً، ولكن مهرج فيلم Joker "أرثر فليك" لم يكن يُخيف أحداً، وكان محط السخرية والإمتهان، حتى وضع أحدهم فى يده مسدس؛ ليحمى نفسه من التنمر؛ فأطلق النار على كل من سخر منه ومن ضعفه. إذا نظرنا إلى حكاية جوكر "يواكين فينكس" سنجد أننا أمام تيمة درامية مستهلكة وقديمة: شخص ضعيف ومُهمش، يُعانى من أزمة نفسية، ويضغط عليه من حوله حتى ينفجر عُنفاً فى وجه الجميع، والجوكر كما قدمه "يواكين فينكس" عن قصة والمخرج "تود فيليبس" يشبه كثيراً العديد من الشخصيات التى قدمتها الدراما العالمية، ربما من أقدمها شخصية "كوازيمودو" أو الأحدب فى رواية وفيلم "أحدب نوتردام"، وهو ذلك الشخص القبيح الضعيف، ذو الحس المرهف والجسد المشوه، الذى يتعرض للتنمر دائماً، ولا تشفق عليه سوى الغجرية الحسناء"أزميرالدا".
مهرجو الدراما وعالم الجوكر
لا يبدو فيلم فيلم Joker مُنتميا لعالم شخصيات وحكايات الكوميكس التقليدية، التى تعتمد على المغامرات والمؤثرات والخدع، بل هو أقرب لعالم الدراما السيكولوجية، وهو يحتوى على العديد من الإحالات على أفلام سابقة، أبرزها عدد من أفلام المخرج "مارتن سكورسيزى"، مثل سائق التاكسى الذى لا يستطيع التأقلم مع نفاق المجتمع بعد عودته من حرب فييتنام فى فيلم Tax Driver، فيتحول لشخص عنيف، والملاكم الأنانى العنيف "جيك لاموتا" الذى يصعد من الفقر للثراء، لكنه ينطوى على نفسه، ويدمره الشعور بالإرتياب والغضب الدائم فى فيلم "الثور الهائج" Raging Bull، والكوميديان الفاشل فى "ملك الكوميديا" The King of Comedy، وهو الشخص الوحيد الذى يظن أنه مرح ويحتاج المساعدة، ويصبح مهووساً بمقدم برامج حوارية، ويدفعه الغضب للعنف والجريمة، وللمفارقة هذه الأفلام جميعها من بطولة "روبرت دى نيرو"، أحد أبطال فيلم "جوكر"، وهو من أهم من قدموا الشخصية التى تتمتع بلطف خارجى، وداخل سيكوباتي عنيف.
لا أدرى لماذا ألحت عليّ شخصية "قناوى" التى جسدها "يوسف شاهين" فى فيلم باب الحديد عام 1958، وأنا أشاهد النصف الأول من فيلم Joker؟ ربما تلك الحالة الميلودرامية المشتركة بين البطلين.
تخيل معى شخصية "قناوى"، وقد تحولت لشخصية الجوكر، بماكياجه المميز، وملامحه الجنونية الساخرة، وعنفه الدموي فى الانتقام من المتنمرين به داخل باب الحديد، ولم يكتف فقط بقتل "هنومة"، بل بدأ يطارد كل من ظلمه، وخطط لجرائمه على طريقة شكوكو فى فيلم "عنتر ولبلب"، فى كل مرة ينتقم فيها يقوم بالوصول لغريمه، ويشفى غليله بصورة صادمة وساخرة، كما فعل "أرثر"، ولم يكتف بمجرد صفعات خاطفة على وجه عدوه، أو مواعظ يقدمها للجماهير، كما فعل بهلول الأراجوز، الذى جسد شخصيته "عمر الشريف" فى فيلم "الأراجوز".
حكاية "قناوى" إحالة لم ترد فى فيلم "جوكر"، وهناك اختلافات عديدة بين "قناوي" و"أرثر"، من ناحية السلوك والملامح الشخصية، ولكن "قناوى" بصورة ما جوكر فشل فى العثور على الحب، ولم يجد من تحنو عليه، كما فعلت "أزميرالدا" مع أحدب نوتردام.
جريمة "قناوي" كانت قتل حبيبته "هنومة-هند رستم"، وإلقاء التهمة على خطيبها "أبو سريع-فريد شوقي"، ولم تكن الجريمة جنونية تماماً؛ فقد ظن هو أن معاملة "هنومة" اللطيفة معه فى أغلب الأحيان أملاً فى أن تحبه، وأن تصبح "أزميرالدا" الخاصة به، وتمسكها بأبو سريع خيانة له.
الجوكر داخل شخصية "قناوى"
مجتمع باب الحديد نموذج مُصغر من جوثام سيتى، ونموذج رمزي لمجتمع المُدن المتحضرة شكلاً، ومتآكلة إنسانياً، وهى تصهر بنيران قسوتها شخصية هشة وضعيفة ومعتلة إجتماعياً مثل "قناوى"، وتحوله إلى ضحية سهلة لأشخاص يمارسون القسوة على سبيل التسلية والمرح؛ لاحظ مثلاً التشابه بين مشهدى إعتداء الصبية الصغار على المهرج "أرثر" ومطارته فى شوارع وأزقة جوثام سيتى، ومشهد إلقاء الحجارة والاعتداء على بائع الجرائد الأعرج "قناوى" حتى ينزف، وهروبه بين قضبان ممرات القطارات الخلفية الموحشة. "قناوى" شخصية مكبوتة إجتماعياً وجنسياً، وهو شخصية مرشحة للانفجار، وكذلك الجوكر الذى يعانى من متلازمة عصبية، تجعله يضحك لا إراديا حينما يشعر بالقلق والخوف والتوتر، وهى مفارقة ساخرة، لأنها تتسبب فى إستفزاز من حوله؛ لظنهم أنه يسخر منهم.
ربما تكون شخصية "قناوى" المُعقدة، القاتمة، من فيلم "باب الحديد" هى الأكثر قرباً من شخصية الجوكر وأحدب نوتردام، فهو بضعفه وهشاشته يظهر دائماً مجرد مسخ أعرج مُهمش، يسخر منه الآخرون، وهو نفسه شخصية لا مبالية، لا يأبه بكل الأزمات من حوله، ولكن وجد شخصية "عم مدبولى- حسن البارودى"، بائع الصحف بالمحطة، وهى الوحيد الذى أشفق عليه، وأنقذ مجتمع باب الحديد من قاتل سيكوباتى شبيه بالجوكر.
"باب الحديد"، تأليف "عبد الحى أديب"، وإخراج "يوسف شاهين"، من أوائل أفلام الدراما السيكولوجية المصرية، ومن الأعمال التى كسرت كلاشيهات السينما المصرية، ورغم أنه تناول الظلم والتفاوت الاجتماعي فى خلفية العمل، وصراع "أبو سريع" من أجل حقوق الشيالين، لكنه ركز الضوء على الشخصية المهمشة، التى لا تتمتع بكاريزما الشخصيات الدرامية فى فترة إنتاجه (1958)، وجعل من "قناوى" الأعرج جوكر العمل، وقد وصل الفيلم إلى أعتاب هوليوود، وكان أول فيلم ترشحه مصر ممثلاً لها، لجائزة أوسكار الفيلم الأجنبى، لكنه لم يصل للتصفيات النهائية، فحظ "قناوى" لم يكن أبداً مثل حظ "الجوكر".