"يوم وليلة".. حكايات إنسانية رائعة أتلفها السيناريو والإخراج!
في بداية الألفية الثالثة، كانت السينما المصرية تحاول الخروج من نمط السرد الدرامي التقليدي، الذي ساد زمناً طويلاً، وكانت تحاول التخلص من سجن فيلم البطل المطلق، وظهر فيلم "سهر الليالي" عام 2003 ليقدم دراما سينمائية مُتعددة الحكايات والشخصيات عن الحب والعلاقات الزوجية، من زوايا مختلفة ومتكاملة، تظهر على الشاشة من خلال رؤى مجموعة من الأصدقاء.. الفكرة لم تكن جديدة تماماً على مستوى كتابة السيناريو، ولكن الكاتب "تامر حبيب" صاغ حكاية دافئة وجديدة على جمهور السينما، وبدت الحكاية ملائمة لذوق المرحلة؛ حيث كانت أفلام السينما وقتها تقدم مجموعة من الشباب الصاعد، وتحشرهم جميعاً داخل حبكات درامية تقليدية، ونجح الفيلم في تقديم حدوتة بخيوط درامية متعددة، جسدتها ثمان شخصيات رئيسية، وكانت المعالجة جذابة، ونجح المخرج "هاني خليفة" في صياغتها بتناغم، ومنح الحكايات شكل إنساني مؤثر وعاطفي.
أنماط بشرية متعددة
بعد "سهر الليالى" قدمت السينما المصرية عدد من الأفلام، تدور أحداثها في مكان واحد أو فترة زمنية واحدة، غالباً يوم وليلة؛ وعن المكان قدمت أفلام مثل "كباريه" و"الفرح" و"المولد" و"ساعة ونص"، وهى أفلام شخصياتها وأحداثها تلف وتدور في فلك وثقافة نفس المكان، في حين كان فيلم "واحد صفر"، تأليف "مريم نعوم" وإخراج "كاملة أبو ذكري" يدور يوم المباراة النهائية لمصر مع الكاميرون بكأس الأمم الإفريقية في غانا 2008، ويلتقط لحظة تجمع عليها شخصيات متناقصة ومتصارعة، ويختار فيلم "يوم وليلة" مكان أكبر من قطار ركاب أو كباريه أو مولد، إنه حى السيدة زينب الشعبى، بما يحمله من دلالات تجمع أنماط بشرية بسيطة، يجمع بينها الفقر والظروف الاجتماعية القاسية، وأما الزمان فهو الليلة التى تسبق مولد السيدة زينب.
شخصيات الفيلم الرئيسية تعبر عن ثقافة المكان، وتصور نموذج مصغر من الوطن، وكما اختار السيناريو نماذج متواضعة ليسلط عليها الضوء، منح البطولة الأهم لشخصية أمين الشرطة "منصور الدهبي- خالد النبوي"، الرجل الذى يقدم الخدمات لأهل منطقته، ويرعى ابنة مُصابة بمتلازمة داون، ونراه من زاوية أخرى يدير علاقات مريبة مع لصوص ومجرمين، مقابل نسبة من حصيلة المسروقات، وقدم "خالد النبوي" أداءا متميزا ومتماسكا، رغم ضعف السيناريو، وفقر الرؤية الإخراجية.
أضواء وظلال على وجوه الشخصيات
كتب الفيلم "يحى فكري"، وأخرجه "أيمن مكرم"، وهو يرصد حكايات مجموعة من الشخصيات التي تبدو متباعدة في بداية الأحداث، ولكنها تلف في دوائر درامية؛ لهذا هى تتباعد في أوقات، وتتلاقى في أوقات أخرى، والشخصيات مرسومة بوضوح ومباشرة، ولكن علاقتها بالخير والشر تبدو ملتبسة، ولكل شخصية زاوية تبدو فيها خيرة، وزاوية مظلمة نتعرف عليها مع تتابع الأحداث؛ ومثال ذلك شخصية الموظفة "إيرين- حنان مطاوع" التى نراها في مشهد مؤثر مع أمها المريضة، التي لا تجد الرعاية الكافية في مستشفي التأمين الصحي، ونتابع في تعاطف أزمتها كزوجة لا تستطيع الطلاق والارتباط بالشخص الذي يحبها، ثم نراها تفتح درج مكتبها أمام المواطنين لوضع الرشاوى لختم أوراقهم، وتعاملهم بعصبية، ونتابع أيضاً شخصية "ميرفت- درة" الممرضة التى تُعاني الفقر؛ فتبدأ في استغلال جمالها للحصول على المال، وتسرق أدوية وتبيعها خارج المستشفي، وعلى نفس المنوال نرى تناقضات باقى الشخصيات؛ "محمود- أحمد الفيشاوى" الذى يعمل في السرقة والبلطجة لصالح "بجاتى- خالد سرحان"، و"فرج- حمزة العيلى"، المسجون الذى يعمل مرشداً للشرطة، و"عبد السلام- محمد جمعة"، المدرس الملتحى المتشدد، بالإضافة إلى علاقة الحب بين الشاب المسيحى والفتاة المحجبة "بيتر ووفاء"، وغيرها من الحكايات الملفتة، التى تتسم بجرأة الطرح.
مولد وسيناريو غايب
المولد في الفيلم تيمة نسمع عنها ولا نشعر بها؛ فلم ينجح السيناريو في تأكيد حضورها المعنوي؛ فهى مجرد حدث هامشى، نرى منه لقطات عابرة من وقائع الحضرة، وعلى التوازي مع الرقص والذكر تظهر من حين لآخر فرقة موسيقية شبابية متجولة، تبدو نشاز وسط الصورة الفاسدة للمكان، لكنها تشير عموماً لسحر الفن، الذى يغيب عن بيئة هزمتها شراسة الحياة، وأصبحت طاردة لمظاهر الحب، وهو أمر نراه في التربص بشاب وفتاة يسيران معاً، ويزيد التربص بهما داخل حارة شعبية ضيقة، استخدماها كطريق مختصر، ولم ينقذهما إلا الظهور المفاجى للفرقة الموسيقية المتجولة.
أسئلة بلا إجابات
حاول السيناريو رسم الشخصيات بصورة متوازنة؛ ربما لأنه لا يرغب في أن تبدو الشخصيات ملائكية للغاية، أو شريرة تماماً، وقد رسمها كبورتريه بعض ملامحه مضيئة، والبعض الآخر غارق في الظلام، ولكنه لم يتجاوز هذا الشكل إلى التعمق داخل تفاصيل أزمات الشخصيات، وبدت الأحداث كعناوين براقة لموضوعات لم تكتمل كتابتها، كأن الفيلم يخبرنا أن هذه الشخصيات لديها مشاكل وأزمات وصراعات، ولكنه لا يضيف جديداً على مستوى الطرح الفنى؛ فهذه المشاكل تعرضت لها السينما سابقاً، ولم نجد شىء جديد في رؤية "يوم وليلة". لا تثمر العلاقات بين الشخصيات عن صراعات تدفع بالدراما إلى الأمام، ربما باستثناء الخط البوليسي المتواضع الذى يتعلق بخطة أمين الشرطة للإيقاع بعصابة تسرق السيارات، لكن تظل باقى أسئلة الفيلم مُعلقة: ماذا عن مشكلة "إيرين" مع أزمة طلاقها المستحيل دينيا؟ وما هو مصير قصة الحب الشائكة بين مسيحى ومسلمة؟ وماذا أضافت شخصية المدرس المسيحى الذى يعامله زميله المتشدد بتنمر؟ وما هو الهدف من طرح الأسئلة الشائكة ثم تركها دون معالجة درامية؟ دور الفن هو الطرح الفني، والتأثير بأدوات ولغة السينما والدراما، وهو أمر افتقده الفيلم بشدة.
فيلم "يوم وليلة" حمل الكثير من الحكايات الإنسانية الجريئة، وقدم مجموعة موهوبة من نجوم التمثيل، وهو أمر يُحسب له في وسط تيار أفلام تؤثر التفاهة والسطحية، وتبتعد عن الأفكار الجدلية، لكنه على المستوى الفني أهدر كل ذلك، وغرق في مولد من الصخب الدرامى، ولم تتبلور أفكاره، ولجأ إلى الحلول الدرامية النمطية، وترك أزمات أبطاله مُعلقة في الهواء.