فيلم "نور شمس"..حكاية إنسانية عن أم تقود سيارة أجرة بحثا عن ذاتها في شوارع جدة

"أصلا فرنسا يكرهوا العرب".. هذه واحدة من عدة عبارات سمعها الحاضرون لأفلام مهرجان الجونة في دورته الخامسة قبل بداية كل فيلم، حيث أعدت إدارة المهرجان شريط دعائي قصير يعرض قبل بداية أي عرض به لقطات وعبارات من كل الأفلام المشاركة، دون أي الزام بأن يصل الصوت متوازيا مع الصورة، سمع الجمهور العبارة كثيرا لكنه لم يعرف صاحبتها إلا عندما عرض فيلم "نور شمس" للمخرجة السعودية فايزة آمبة لأول مرة ضمن عروض الأفلام القصيرة المشاركة في المهرجان .

الجملة للممثلة السعودية عائشة الرفاعي، كانت تقولها لابنها في الفيلم الممثل ومطرب الهيب هوب أحمد صدام، أما الفيلم نفسه فجذب الانتباه بشدة من بين الأفلام القصيرة التي شهدتها الدورة الملقبة الآن بدورة الأزمات بسبب الظروف الصعبة التي مرت بها إدارة المهرجان والتي بدأت بحريق في مسرح الافتتاح وانتهت باستقالة المدير الفني أمير رمسيس.

سائقة أوبر في شوارع جدة

جاء فيلم "نور شمس" ليؤكد دور السينما في التقريب بين المجتمعات والثقافات المختلفة، وليشير بوضوح إلى أن السينما السعودية تسير على الطريق الصحيح، حيث تحقق في الفيلم مستوى فني رفيع المستوى من جهة، أداء جيد للممثلين من جهة أخرى، والأهم القضية التي يطرحها اتسمت بجرأة جذبت الأنظار وأطلقت النقاشات.

بعد انتهاء الفيلم وقف البعض يسأل البطلين، هل فعلا تعمل المرأة كسائقة أوبر في السعودية؟ يحمل السؤال بداخله أهمية دور السينما في تغيير الأفكار والصور الذهنية الجامدة، نعم أجابت عائشة الرفاعي، فالمرأة السعودية التي لم تكن تحلم بقيادة السيارة بنفسها قبل عامين، ها هي تعتمد على نفسها وتقود "أوبر" في شوارع جدة لكنها مخصصة للسيدات فقط .

ملمح مهم من ملامح تغير المجتمع السعودي رصده الفيلم الذي لا تزيد مدته عن 26 دقيقة، لكنه مجرد عنصر ثانوي، فالشريط القصير لا يدور بالطبع عن سائقة سيارة أوبر تبحث عن تحسين دخلها، وإنما عن أم سعودية تبحث عن ذاتها وهنا يكمن عنصر القوة الأساسي للفيلم، الذي هو صورة من حياة مواطنة بسيطة عانت في طفولتها من التنمر بسبب لون بشرتها، تنمر لم يحاصرها من خارج المنزل فقط بل من داخله، أمها كانت تعايرها بملامحها وتستبعد أن يأتيها العريس، لكنه جاء فهرعت إليه دون أن تفكر في ما قد يحدث مستقبلا، ارتبطت برجل من جنسية عربية أخرى، الوحيد الذي رآها جميلة، وأنجبت منه ابنها الوحيد قبل أن يغادر بيتها ومدينتها ويتركها وحيدة ترعى الطفل الذي كبر وبداخله موهبة الهيب هوب لكنها يعمل موظف أمن في مستشفي يعتمد على أمه في كل شئ، بل هي التي تقله إلى محل عمله وتعود لاصطحابه بعد انتهاء "الوردية".

لغة سينمائية مشوقة 

نعرف من خلال الأحداث أن الأم تجيد صناعة نوع معين من الحلوى، لكنها تفشل في تسويقه، قصرت حلمها على الدفع بابنها للزواج والبقاء بجانبها، لكن التحول يحدث عندما يخطط الابن للسفر، إذا نجح في مسابقة للهيب هوب ستأتيه منحة للذهاب إلى فرنسا، تظن الأم أنها عندما تعترض وتخيفه بأن "أصلا فرنسا يكرهوا العرب" سيتراجع الابن الباحث عن مستقبله خارج حدود عالم الأم، لكنه لم يفعل، تحاول أن تمنعه بكل الحيل، لكنه لا يستسلم، فتقرر أن تبحث هي عن ذاتها وتطلق يده يصنع بها مستقبله كما يشاء.

المخرجة فايزة آمبة الحاصلة على جوائز عدة، والتي عملت مراسلة لواشنطن بوست وشاركت في انتاج "السلام عليك يا مريم" الذي رشح للأوسكار 2016 كأفضل فيلم غير أمريكي قصير، نجحت في أن تصيغ أفكارها بلغة سينمائية مشوقة، دون الحاجة للمباشرة، نعرف مثلا أن الأب أجنبي من باسبور الابن، نرى تعثرها في تسويق الحلوى من مشهد ظريف مع احدى الراكبات – جسدتها المخرجة السعودية شهد أمين- نعرف قصتها الكاملة عندما يقرر الابن الرحيل، أي أنها لم تحكى له شيئا وهو طفل، عاش حياته يظن نفسه يتيم بينما والده على قيد الحياة، السرد السينمائي الذي استخدمته أمبة في هذا الفيلم يدفع المتفرج لانتظار تراكم المعلومات واحدة تلو الأخرى حتى يتعرف على قصة الثنائي كاملة، ويجد نفسه ليس فقط يتعاطف مع الأم والإبن ويحتار بينهما وإنما يشعر وكأنه يعيش في البيت نفسه ويريد أن يتذوق حلوى الأم ويصفق لموهبة الابن في الهيب هوب.

عندما تحسم "شمس" قرارها، يشعر المتفرج بارتياح، لأن الأم وجدت ذاتها بعيدا عن الابن، ولأن الابن لم يضطر للاستسلام ارضاء للأم، هكذا تؤدي السينما رسالتها عندما تقدم حكايات الأشخاص العاديون، دون خطاب مباشر، ودروس مستفادة ورسائل تربوية لا يعول عليها أحد.

الصور من المركز الإعلامي لمهرجان الجونة السينمائي