عروض مهرجان البحر الأحمر ـ فيلم "الغريب": حكاية شخص ملّ الحياة

مثل قصيدة شعرية رقيقة وفريدة، يصنع المخرج أمير فخر الدين فيلمه الطويل الأول "الغريب"، يخلق حالة تستدعي التأمل في كل مشهد، حتى أننا يمكن أن نعيد مشاهدة الفيلم مرارًا، لنكتشف شيئًا جديدًا في كل مرة.

الفيلم المعروض ضمن قسم اختيارات عالمية في مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي في دورته الأولى، يمكن اعتباره أحد أفضل الأفلام العربية في عام 2021. 
بدأ الفيلم رحلته من مسابقة أيام فينيسيا (Giornate degli Autori Award)، قبل أن يعرض لاحقًا في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، ويحصل على جائزتي أفضل فيلم عربي وأفضل فيلم في مسابقة أسبوع النقاد.

لا نخشى الموت لأننا لم نختبر الحياة

يتابع الفيلم شخصية عدنان (أشرف برهوم) الطبيب الذي لم يكمل دراسته في الخارج وعاد إلى موطنه في هضبة الجولان المحتلة، حيث الحياة شديدة الصعوبة على كل المستويات. يكتشف عدنان بالصدفة شخصًا مصابا من الحرب في سوريا ويقرر مساعدته متحديًا كل ما يمثله هذا من خطر.

يشكل هذا الفيلم مرثية لحياة عدنان، وكل حياة مشابهة لها تحت الاحتلال، ويمكن أن نقسم الفيلم إلى نصفين واضحين، الأول قبل أن يجد عدنان الشخص المصاب، والثاني بعد أن يجده.

في النصف الأول، نتعرف على الشخصية الرئيسية الذي درس الطب في روسيا وعاد دون أن يكمل دراسته، علاقته بوالده وزوجته وابنته شديدة التوتر، يقضي جل يومه في مزرعة بعيدة عن البيت، يسكر طوال اليوم، ولا يبدو أنه يملك هدفًا حقيقيًا في الحياة، ربما سوى تفادي الحياة نفسها.

لما كان بطل الفيلم مهزومًا بالأساس، يختار المخرج أن يؤخر لقائنا به، إذ نتعرف عليه من خلال كلمات أبيه (محمد بكري) عنه، وهو يحرمه من الميراث، ونقضي الدقائق الأولى من الفيلم دون أن نعرف من هو عدنان وماذا فعل حتى يستحق هذه اللعنات.

لكننا لا نسمع عنه فقط بل نشاهد عالمه أيضًا، الذي يبدو أشبه بعوالم ما بعد الفناء (Post Apocalyptic)، كل شيء يبدو بدائيًا إلى حد كبير، لا وجود للتكنولوجيا الحديثة إلا في موبايل قديم، السيارات عتيقة ومتهالكة، لا وجود للكثير من البشر، الاعتماد في الإضاءة مزيج من المصابيح الكهربائية والشموع. بجانب كل هذه التفاصيل، يختار المخرج أيضًا طبيعة لونية بها الكثير من درجات الرمادي والألوان الداكنة، ولا يمنح البطل شكلًا مغايرًا أو يميزه، بل يجعله متماهيًا -شكليًا- مع كل هذا العالم الباهت.

جانب آخر يضيفه أمير فخر الدين للحالة العامة التي صنعها، وهي اختياره تثبيت الكاميرا في أغلب مشاهد الفيلم. في أحد المشاهد الموترة، يقف عدنان بسيارته أمام إحدى نقاط التفتيش الإسرائيلية وهو ثَمِل، ويحاول عبور نقطة التفتيش، طوال هذا المشهد الذي امتد لعدة دقائق، تكون الكاميرا داخل السيارة ونشاهد ما يحدث داخل السيارة وخارجها من خلال الزجاج والنوافذ. منحنا هذا الاختيار شعورًا أكبر برتابة هذه الحياة وسكونها، فحتى عندما يقع فيها حدث كبير، لا يبدو أن العالم يتغير بالفعل، بل يظل على ثباته.

ربما استغرق النصف الأول وقتًا أطول من المطلوب بقليل، لكنه في النهاية جعل المشاهد منغمسًا تمامًا مع الشخصية وعالمها.

عدنان وليلى

بعد أن يكتشف عدنان الشاب المصاب ويحاول مساعدته، نبدأ أخيرًا في مشاهدة التغيير في حياته، إذ شكّل هذا المصاب هدفَا حقيقيًا يحيا من أجله عدنان. رغم أنه لديه طفلة وزوجة، لكنه لم يجد ما يدفعه للاستمرار في الحياة إلا في المصاب، الذي كانت مساعدته بمثابة فعل تمرد وكسر لقواعد هذا العالم التي لم يضعها ولا يستطيع أن يغيرها.

نجد في النصف الثاني سرعة أكبر في إيقاع الفيلم، تؤكد الاختلاف الذي طرأ على بطل العمل عندما وجد ما يحيا من أجله. يقرر عدنان أن يتصالح مع واقعه، أو على الأقل يُحسنّه بعض الشيء، لكن -وعلى عكس المعتاد في أفلام مشابهة- نجده هذا الواقع لا يرغب في مصالحته. ربما تبدو صورة قاتمة تلك التي يتركها هذا الفيلم داخلنا، لكن المخرج لم يُرد أن يجمّل الواقع بإضافة أحلام زائفة.

مع تتابعات النهاية، يمنحنا المخرج قطعة أخيرة من الشِعر، لكن ليس باستخدام الصورة أو الإيقاع هذه المرة، بل بالحوار، إذ يقرأ عدنان ما يبدو أنه خطاب إلى زوجته ليلى (أمل قيس)، الكلمات المكتوبة بالعربية الفصحى، مع الإلقاء المميز لأشرف برهوم، يجعلاننا نستمع إلى ما يشبه القصيدة مع المشاهد الأخيرة للفيلم. يعزز هذا الشعور أن الزوجة اسمها ليلى، أشهر الأسماء في الشعر العربي، لكن ليلى "الغريب" ليست امرأة، بل هي الوطن بعيد المنال.

ضمن ما تلاه عدنان في أبياته الأخيرة، يقول: "أنا غريب يا ليلى، وفي الغربة وَحشَة قاسية، لكنها تجعلني في وطنٍ سحري لا أعرفه". هذا السطر القصير ربما يحمل ملخصًا للفيلم بأكمله، شخص يعيش مع أهله، لكنه يشعر بالغربة، يعيش في وطنه لكنه ليس الوطن الذي يتمناه، فالوطن الحقيقي يبدو له أمرًا سحريًا لا يعرفه.