مهرجان برلين 2022 - فيلم Fire.. كيف تكذب من شدة الصدق؟
واحد من أكثر الأفلام التي انتظرناها في مسابقة برلين، فيلم Fire (حريق)، وله عنوان آخر هو (Both Sides of the Blade) (حدّا النصل)، وكان ترقب الفيلم لعدة أسباب، أولها أنه للمخرجة الكبيرة كلير دوني، التي عُرضت أفلامها في أغلب المهرجانات الكبرى، والفيلم يعد عودتها لموطنها فرنسا بعد أن قدمت فيلمها السابق "High Life" (حياة راقية) (2018) الذي كان إنتاجًا مشتركًا بين أمريكا وفرنسا، كما يشهد الفيلم أيضًا عودتها للأرض بعد أن دارت أحداث الفيلم السابق في الفضاء.
تعمل دوني في "حريق" مع ممثلتها الأثيرة جوليت بينوش والممثل فنسينت ليندون، وجريجور كولين، وتعاون هؤلاء الممثلين هو بلا شك من الأسباب الأخرى التي كانت ترفع حالة الترقب للفيلم.
تبدأ الأحداث عند الزوجين جان (ليندون) وسارة (بينوش) اللذان تبدو علاقة حبهما شديدة القوة، لكن سرعان ما تتغير الأمور بظهور حبيبها السابق فرانسوا (كولين) الذي انفصلت عنه منذ سنوات، والذي تربطه حاليًا علاقة عمل بزوجها.
"حريق" من الأفلام التي تضع المشاهد في حالة من الارتباك أثناء متابعتها، فمشاعر الشخصيات تتبدل بمرور الوقت، وبالتالي تعاطف وتفاعل المتفرج معها يتغير. مشاهد الحب الافتتاحية للفيلم بين جان وسارة، تجعلنا نشك سريعًا أن هذا الغرام بينهما لن يستمر طويلًا وسيتعكر صفوه بسرعة.
رغم أن الفيلم يأخذ وقتًا في تأسيس شخصياته، فإنه يتركنا في الكثير من المشاهد المهمة دون فهم حقيقي للدوافع، بالإضافة إلى عدم استغلال بعض الشخصيات بالقدر المطلوب. على رأس هذه الشخصيات ابن جان الذي تتولى جدته لأبيه الوصاية عليه، بينما يسعى جان لاستكمال بعض الأوراق لانتقال الوصاية له. نشعر أن شخصية الابن موجودة لتمثل نقطة ضعف عند الأب، إذ أنه يُضطر للعمل مع فرانسوا حتى يُكمل الأوراق المطلوبة، لكن في الوقت ذاته يفسح العمل عدة مشاهد للابن ولعلاقته بجدته وأبيه لا نجد أنها تصل إلى شيء حقيقي في النهاية، بل تتشابه أغلبها. لكن شخصية الابن في النهاية شخصية ثانوية، يبقى التركيز الأهم على كان على سارة وجان.
يأخذنا الفيلم في رحلة للإجابة عن تساؤل قديم جدًا من تساؤلات الحب، هل يمكن للإنسان أن يحب اثنين؟ بينما نجد سارة عاشقة لجان، فإنها تنهار سريعًا عندما تشاهد حبيبها القديم، وتستعيد ما كان في قلبها تجاهه. بالتأكيد يوجد الكثير من الأساليب حتى نتفاعل مع شخصية سارة وحبيبـيها، لكن ما قدمه سيناريو الفيلم في الحقيقة لم يدع لنا مجالًا للتعاطف مع الشخصيات بأي شكل. ولا أعني هنا بالتعاطف، أن نحب الشخصيات ونشعر بالشفقة عليها، بل أن نكون أي عاطفة متماسكة، حتى لو كانت الكراهية.
تحتوي السطور التالية على كشف لبعض أحداث الفيلم.
في البداية تبدو العلاقة بين سارة وجان مثالية كما ذكرنا، لكن بداية من ظور التعاون بين فرانسوا وجان، تبدأ الأحداث في الاضطراب، فرغم الحب القوي بين الزوجين، نجد أن سارة تذهب إلى فرانسوا سريعًا ودون أن نشعر بوجود صراع داخلي حقيقي لديها، إلا عندما رأته للمرة الأولى، وعند مواجهة جان لها بالخيانة فإننا لا نشعر بأدنى شعور بالذنب أو بأنها ربما تشعر بالحزن أمام اكتشاف خيانتها، نشاهدها تتحدث بمنتهى الثقة عن عدم خيانتها لجان، بل وتتهم الأخير بأنه يشك فيها.
ربما يكون التوصيف الأفضل لهذا الشعور هو ما قاله نزار قباني "لقد كنت أكذب من شدة الصدق"، إذ أن أداء جوليت بينوش للشخصية لا يترك أمامنا الكثير من الخيارات لتحليل مشاعر الشخصية، بل تبدو صادقة تمامًا في حبها لزوجها وهي تنكر خيانتها، حتى أن من يشاهد الفيلم من منتصفه دون أن يعرف أنها خانته بالفعل، فمن المستحيل أن يساوره أدنى شك في وفائها.
قد تكون هذه الحالة الشعورية هي ما راهنت عليه كلير دوني بالفعل، حالة الصدق في حب اثنين، لكن ما تلى ذلك لم يكن إضافة للفيلم. في مشهد حواري طويل تعاتب سارة جان وتتهمه بأنه هو من أوصلها إلى هذه الحالة، في حقيقة الأمر يبدو هذا الحوار تقليديًا تمامًا وغير مقنع على الإطلاق، فلا يوجد أي دليل على أن جان يسيء معاملتها، والتفسير الوحيد لهذا الحوار هو أنه حيلة دفاعية أخيرة من سارة للهروب من الاعتراف بالخيانة. في النهاية يكون رد فعل جان قاطعًا إذ يقرر هجرها، وهذه النهاية في الحقيقة تقلل من مساحة الخيال المتروكة للمشاهد ليستكمل ما سيحدث مع الشخصيات. لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل نشاهد مع تترات النهاية مشهدًا لجان وابنه في أحد ملاعب كرة القدم الأمريكية، وفي الحقيقة لم تكن علاقة الابن والأب هذه هي ما نهتم به كمشاهدين أو حتى ما اهتمت به الأحداث حتى تكون النهاية عندها تحديدًا.
في النهاية يتركنا الفيلم مع بعض الحيرة في تحديد طبيعة الحب بين سارة وعشيقيها، وهي حيرة يمكن سلاحًا ذو حدين، فمن جهة هي تسمح للمشاهد بتأويل الفيلم كما يريد، وتترك له التعامل مع مشاعر الشخصيات حسبما يرى، ومن جهة أخرى تبدو المشاعر في الفيلم غير مُشبّعة بالقدر الكافي، وكأنها اقتربت من الفكرة لكن لم تتعمق فيها بالقدر المطلوب.
فيلم "Fire" من الأفلام التي تبدو وكأنها تعد بالكثير، لكنها في النهاية لا تترك نفس الأثر الذي تعد به بل أقل، وكأنه حالة غير مكتملة.