خاص "هي"- مهرجان فينيسيا 2022: فيلم "The Banshees of Inisherin".. كل ما تود مشاهدته وأكثر
هل جربت عزيزي القارئ أن تشاهد فيلمًا وتشعر أنك أنجزت كل ما تريده، حتى أنك لا تريد الحديث عنه الفيلم، فقط تريد أن تستعيده في ذهنك مرات ومرات؟ هذا هو الشعور الذي يتركه فيلم "The Banshees of Inisherin" (حواجز إنيشيران) للمخرج مارتن مكدوناه بعد مشاهدته. الفيلم الذي يعرض ضمن مسابقة مهرجان مسابقة فينيسيا 79، يعد أحد أقوى أفلام المهرجان وربما العام.
ما قبل النهاية
بعد مشاركته بفيلمه السابق "Three Billboards Outside Ebbing, Missouri" (ثلاث لوحات إعلانية خارج إيبينج، ميسوري) في مسابقة فينيسيا لعام 2017 وحصده لجائزة السيناريو، يعود مكدوناه بفيلمه الرابع للمهرجان، وفيه يتعاون مع كولن فارِل وبريندون جليسون اللذان عملا معه من قبل. تدور الأحداث في عام 1923 في جزيرة إنيشيران المتخيلة والتي تقع في إيرلندا. يفاجأ بادرِك (فارِل) بأن صديق عمره كالم (جليسون) قرر أن يقاطعه دون مقدمات، فيحاول أن يقنعه بالعدول عن قراره بكل الطرق الممكنة، بينما يحاول المحيطين به مساعدته لتقبل القطيعة أحيانًا ولإعادة المياه إلى مجاريها أحيانًا أخرى.
لا نحتاج إلى وقت طويل حتى نشعر بالرهان المختلف لهذا الفيلم، فربما شاهدنا أعمالًا عن محاولات عودة ابن أو ابنة إلى آبائهم أو العكس، وبالتأكيد هناك الكثير من الأعمال التي ناقشت محاولات حبـيـبـين للتغلب على قطيعة بينهما، لكن الصداقة ليست من الأمور التي تكون في مقدمة الأحداث، وهكذا نجد سريعًا أول اختلافات هذا الفيلم.
مع التعرف على ما يبدو أنه الأزمة الرئيسية لبطلي الفيلم، سنشعر أننا أمام فيلم بسيط لكن مكدوناه يتسلل بسلاسة ليقدم ويأخذ المشاهد من فكرة إلى أخرى، ويبني شخصياته بتدرج مثالي. بادرِك الذي يعمل راعيًا، هو شخص بسيط ربما إلى حد السذاجة، يقضي يومه بين مجالسة الأصدقاء والعمل، ولهذا فإن خسارة صديقه له تعني الكثير جدًا، فهو ليس مجرد صديق بل هو بمثابة جزء من حياته اليومية التي لا تنطوي على الكثير. في المقابل يبدو كالم شخصية أكثر ثِقَلا وخبرة من بادرِك، لكنه هو في الحقيقة من فجر الأزمة.
بعد الكثير من التساؤلات عن سر هذه القطيعة، خاصة مع ما يبدو من لطف بادرك الذي لا يمكن أن يؤذي كالم، ندرك أن أزمة هذا الأخير أعقد بكثير من علاقة بين صديقين، هو يعاني من أزمة نهاية العمر، يرى أن نهايته اقتربت وهو لم يفعل شيئًا يُذكر له. هنا وهنا يبدأ الفيلم في الدخول إلى درجة أعمق وأكثر تعقيدًا، فما هو المطلوب أن يتركه الإنسان قبل أن يرحل؟
من وجهة نظر بادرك فإن الصداقة والحوارات اليومية مع صديقه هي أهم من أي شيء في الحياة، هنا والآن، بينما كالم يفكر في ما بعد. عندما نضع في الحسبان أننا في جزيرة صغيرة لا تتوافر فيها الكثير من الإمكانيات، وربما تكون منسية من سكان المدن الكبرى فإننا سنشعر بشكل أكبر بأفكار كالم، الذي يشعر بأنه إن رحل الآن سيصبح غير موجود ولهذا يفكر في تأليف مقطوعة موسيقية يتركها بعد رحيله.
بدقة نادرة يكشف المخرج طبقات شخصيتيه حتى يجعلنا نشعر في لحظة محددة بأننا نتعاطف مع كليهما، والأهم نشعر بأننا كليهما، نبحث عن ما يثري الحياة الآن، وعن ترك أثر أيضًا بعد النهاية.
فيلم لا يقدم تنازلات
عكس فيلمه السابق، الذي اتسم بالسوداوية منذ أول مشاهده، يبدأ "إنيشيران" بالكوميديا الجيدة، وينتقل بعدها إلى مشاهد حزينة، وأخرى عنيفة أيضًا. في ظروف أخرى قد يصبح هذا مُشتتًا لكن مكدوناه ينتقل بين هذه الأنواع المختلفة بدقة شديدة. كأننا نلقي نظرة على حياة كاملة، إذ كنا في البداية نتعرف على الشخصيات ولا ندرك حجم الأزمة فإن الكوميديا بين بادرك وكالم كانت مناسبة جدًا، لكن مع تصاعد القطيعة والتعرف على الجانب الكئيب من شخصية بادرك، تتراجع الكوميديا بشكل تدريجي لإفساح مساحة للمشاعر الأخرى، قبل أن يرتفع الحس المأساوي في الفصل الأخير. يذكرنا هذا الانتقال المميز بأحد أبرز الأفلام في السنوات الأخيرة وهو "Parasite" (طفيلي) للمخرج الكوري الجنوبي بونج جون هو، والذي قدم هو الآخر أنواعًا كثيرة داخل فيلم واحد.
بجانب السيناريو المميز، يوظف المخرج الإنجليزي ممثليه ليقدموا أداءً يقترب من المثالية، ليست مبالغة إن قلنا أنه أحد أفضل أدوار كولن فارل عبر مسيرته، إذ أن شخصيته تضم مراحل الحزن الخمسة الشهيرة: الإنكار، والغضب، والتفاوض، والاكتئاب، والتقبل. ربما ليست بالترتيب نفسه، لكنه يقدمها جميعا دون أن يترك الملامح الأساسية لشخصيته، ونشهد في كل مرة كيفية هذا الانتقال الذي لا يأتي أبدًا دون سبب أو مقدمة منطقية. وفي الوقت ذاته يمنحنا مكدوناه صورة جميلة وشاعرية طوال الفيلم تجعل من تفاصيل الصورة أمرًا ملفتًا يستكمل الحالة المتكاملة لهذا الفيلم.
فيلم "حواجز إنيشيران" من الأفلام التي يمكن كتابة الكثير عنها والعودة لزيارتها مرارًا وتكرارًا دون ملل، لاكتشاف المزيد في كل مرة، وعلى الأرجح سيكون له حظًا كبيرًا في موسم الجوائز القادم.