رؤية نقدية ـ "يوم الدين"..فيلم المنبوذين الذى تحوّل إلى ظاهرة
دفعات إنسانية وشعوريه يمنحها فيلم "يوم الدين" للمشاهد من اللحظة الأولى فى زمن الفيلم، صلة روحية تتكون بين بشاي (راضى جمال) بطل الفيلم المتعافى من مرض الجذام وسرعان ما يتحول لصديق بعد أن تظهر رقة مشاعره وفى الوقت نفسه حزمه وقوته، ثم يزداد الإرتباط بهذا الطفل الكبير مع دخول أوباما (أحمد عبد الحافظ) على الخط وتصبح العلاقة بين أب لم ينجب وأبن نشأ بدون والديه أكثر شاعرية وإنسانية تمتزج فيها المفاهيم بين الصداقة والأبوة فى هذه العلاقة ملخصه فى جملة بشاى عندما يخطئ المراهق الصغير "يا أوباما يا جاموسة، هذه الرؤية والتعاطف مع البطل هو تأسيس مخرج ومؤلف الفيلم أبو بكر شوقي وقوامه الصورة.
الكاميرا التى تقترب من بشاى فى لقطات مقربة تركز على ملامح وجهه وطريقة إمساكه للأشياء ويرسم الملمح الأساسى والأول فى شخصيته عندما يقف أمام تحدي صعب وهو استخلاص سيخ حديد من داخل كتلة إسمنتية، ترصد الكاميرا معاناته وإصراره فى استخلاص هذه القطعة من الحديد وينتهى المشهد وقد نجح فى استخلاصها بصعوده منتصرًا على عربته الكارو التى يقودها الحمار "حربى"، التواصل بين المشاهد وبشاى لغته الصورة وبلا حوار نظرًا لوضع بشاى كشخص وحيد سواء على مستوى عمله كجامع للمخلفات الصالحة لإعادة التدوير أو فى حياته العاطفية بعد مرض الزوجة وابتعادها عنه، لذلك أصبحت الصورة هى الطريقة الأمثل للتعبير عنه بمفردها وزاد عليها الحوار عندما دخل أوباما لضرورته فى تفسير علاقتهما كثنائى يتأرجح بين الصداقة والأبوه والتبعية، هذه الطريقة فى التقديم رفعت مستوى التعاطف والتوحد مع البطلين بالشكل الذى يجعل المشاهد متحيز من البداية لهما.
أثار الفيلم عاصفة من الجدل فى مصر، ليس فقط لكونه الفيلم الذى نافس فى المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائى الدولى فى دورته الماضية ولكن لطبيعة ما يطرحه خلال أحداثه فالتعرض لمصاب متعافى من الجذام وعدد آخر من المهمشين أثار عند الكثيرين الاتهام المعتاد أن هذا الفيلم "يشوه صورة مصر" وأن مخرجه مغرض خاصة وأن مثل هذه الاتهامات كانت تصيب سهامها صناع موجة الواقعية الجديدة فى ثمانينيات القرن الماضى بعد أن وصل الأمر بوصف أفلامهم بـ "سينما الصراصير" ربما يعيد فيلم المخرج الشاب أبو بكر شوقى استدعاء هذه الحالة خاصة مع التماس الواضح لمنهج هذه الموجة وفيلم شوقى الروائى الطويل الأول، فكما كانت العادة فى أفلامهم أن تمثل الكاميرا عينًا ترى بشكل مختلف وتلتقط مدن وقرى مصر بشكل مختلف وتبرز شخوصها أيضًا بشكل مغاير يأتى أبوبكر شوقي ليتعامل مع نفس هذه القواعد ويرسم بها ملامح فيلمه.
الرحلة التى يقرر بشاى المستقر فى محيط مستعمرة مخصصة لمعالجة مرض الجذام بعد موت زوجته خوضها رغبة منه فى معرفة أهله الذين تركوه صغيرًا فى المستعمرة تبدو وكأنها تغريبة تطرح أسئلة عن النسب والأهل وحقيقة الوطن، فى البداية لم يكن بشاي راضيًا عن حياته وكان يرغب فى أن يغلق للأبد حالة الحيرة حيال ترك والده له فى المستعمرة وعدم عودته له مرة أخرى، لذلك يترك بشاي ما يرفض أن يكون وطنه ويرحل من الشمال للجنوب طلبًا لوطن لا يعرفه يرافقه تابع نقلته الظروف من أقصى الجنوب للشمال طفل يتيم يدعى أوباما لا يعرف له هوية لكن الرحلة تكشفها له وتحدد فى نهايتها لكل من الشخصين حقيقة الوطن والأسرة.
الصورة وتكوينها هو أبرز ما يميز الفيلم ففى الوقت الذى حرص المخرج/ المؤلف أبو بكر شوقى مع مدير التصوير فيدريكو سيسكا أن تمنح الصورة بعدًا مختلفا لواقع الحياة اليومى فى مصر ولا فارق فى ذلك بين قرية نائية تضم مرضى الجذام وعدد آخر ممن يعملون فى فرز القمامة وبين مدن ريفية ينتمى بعضها للدلتا وبعضها للصعيد تقترب الكاميرا من التفاصيل الدقيقة لتوضح كيف يتعامل بشاي مع المخلفات ويستخلص ما يستطيع بيعه أو تهبط الكاميرا لمستوى بشاي فى صراعه مع السائق الذى فقد ساقه فى حادث ويعمل كمتسول، مع قصر قامة بشاي والسائق الذى يعتمد على جذعه ويداه فقط فى السير تظهر أرجل المارة حولهم تسير فى حركة سريعة وكأن هذه المعركة لا تعنيهم ولا يرونها، أو حتى فى رحلة بشاي عبر عربته التى يجرها الحمار، يحفظ أبو بكر لريف الدلتا طابعه ولريف الصعيد طابعه ويستخدم الألوان ليصنع الفوارق ونفس الحال مع الأزياء فملابس أوباما الزاهية وملابس بشاى الباهته وكلتاهما نظيفتان فى بداية الرحلة تلوثها الرحلة الشاقة ولكن فى نهاية الرحلة تتحول الملابس لذوق وطابع مغاير، حيث يبدو الشخصان واثقين سعيدين مقبلين على الحياة.
أبو بكر على الرغم من الطابع المصرى الأصيل فى فيلمه والذى ظهر بشكل طبيعى قدم التحية للمخرج الأمريكى ديفيد لينش من خلال استحضار مشهدين من فيلمه الشهير The Elephant Man عام 1980 وأيضًا قدم التحية للمنبوذين بشكل عام سواء المصابين بمرض أو إعاقة أو حتى أصحاء بداية من الرجل الفيل وصولا لبشاي وأوباما وباقى رفقاء الرحلة، المشهد الأول هو مشهد من ذاكرة بشاي لوالده وهو يودعه مستعمرة الجذام صغيرًأ وهو يرتدي غطاء للوجه مفتوح من ناحية واحدة من العينان فقط وهو نفس الغطاء الذى كان يرتديه جون ميريك أو الرجل الفيل، يستحضر "يوم الدين" الأبيض والأسود كما الحال مع الفيلم الأصلى ويستلهم نفس اجواءه فى تناص سيقود المشاهد بالضرورة للربط مع الفيلم الشهير، والمشهد الثانى فى عربة القطار والموازى له فى فيلم لينش مشهد محطة قطار الأنفاق الذى يصرخ فيه ميريك بأنه أنسان ونفس الحال مع بشاى، هذا التناص مدروس ومتقن فى استخدامه لانه بالتبعيه يحمل حالات التعاطف والشحن العاطفى السابقة عند المشاهدين المتعمقين تحديدًا ويضيفها لحالة بشاى وبالتالى تزيد جرعة التكثيف.
أبو بكر يعرف جيدًا حجم التحدى الذى وقع فى حباله فالأبطال الرئيسيين فى فيلمه ليسوا ممثلين محترفين والرحلة تبدو كأنها تغريبة لكن تسير عكس الطريقة المعتادة فبدلا من النزول للشمال من الجنوب، أصبحت الرحلة شاقة صعودًأ من الشمال للجنوب حيث تتغير كل المقاييس وتصبح الرحلة وكأنها سباحة ضد التيار مرهقة وصعبة وقاسية تصل لذروتها مع تملك الخوف من بشاى ولجوءه للمسجد وعندما يقرر أوباما أن يتخذ موقف قاطع يكون راضى يعاني من الخوف منزويًا بوضعية الجنين فى جزء جانبى من المسجد، عند هذه المرحلة يتغير أسلوب أبو بكر البصرى فالحاله التى صنعتها كادراته طوال الفيلم لتعبر عن غرابه الرحلة ولتحمليها بجانب غرائبى لكن بغلاف واقعى نجحت لكن مع اللقاء المرتقب يذهب لعالم الخيال والحلم تتغير الطبيعة ورؤيته فى تكوين اللقطات والتقاط المشاهد وبعد اللقاء تتحول كل مفرادت الفيلم من ملابس ووسيلة إنتقال وطبيعة الشخصيات وكذلك الألوان وأسلوبية التكوين ليكون هذا هو التأكيد البصرى على مراحل التحول فى الرحلة حسب رؤية أبو بكر، وربما ركز على هذه التفاصيل الفنية وضخم من الحالة الشعورية فى الفيلم ليغطى على عناصر أخرى متوسطة الجودة لا تصل لمستوى التصورير والإخراج هم التمثيل والحوار فى بعض المواضع، فكون راضى وعبد الحافظ غير محترفين خلق وجود بعض المشاهد التى تضم أداء تمثيلى ضعيف وحوار ركيك، الملاحظ أن أبو بكر بذل مجهود ضخم فى التدريب والتوجيه لكن فى النهاية تظل بعض المشاهد ضعيفة على الشاشة فى النسخة النهائية ولا بديل سوى التعاون مع مريض جذام حقيقى لذلك التناول والبناء فى الفيلم يعتمد على الدفعات الشعورية وتغليب الإنسانية عن الدراما فى العمل ككل والأداء التمثيلي والحوار فى بعض المشاهد.
الفيلم بشكل عام وعلى حالته مع المشاكل فى السيناريو والتمثيل هو من أفضل ما قُدم فى الفترة الأخيرة، حيث تذهب عادة الأفلام من هذا النوع إلى الافتعال والمغالاة فى تصوير وتجسيد شخصيات المنبوذين، لكن "يوم الدين" على عكسها فهو فيلم إنسانى حقيقى ربما يمثل معايشة وثيقة للنبذ فى مصر وقسوته بالشكل الذى لم يستطيع العديد من الصناع الشباب تجسيده على الشاشة بهذه الدرجة عادة ما تخرج افلامهم بمستوى فنى متقدم لكنها جافة قاسية ليست على هذه الدرجة من الشاعرية والتماهى مع المشاهدين.