رؤية نقدية ـ ورد فوزي صالح المسموم.. من القبح أيضًا يأتي الجمال
انطلاقًا من نفس مكان وبيئة فيلمه الوثائقى "جلد حى" ورواية "ورود مسمومة لصقر" للكاتب أحمد زغلول الشيطى ينسج أحمد فوزى صالح فيلمه الروائى الأول "ورد مسموم"، مع بعض التخوف الذى سيجد طريقة لمن يشاهد ويعلم أن صالح ما زال أسير منطقة المدابغ وربما يشاهد تكرار خاصة مع وحدة المنطقة والمخرج في الفيلمين، "جلد حى" الذى نقل من خلاله تفاصيل حياتية دقيقة من منطقة المدابغ خلف سور مجرى العيون في القاهرة، تلك المنطقة التي تعد واحدة من المناطق القاتلة لساكنيها بسبب التعامل مع الكيماويات وعدم اتباع معايير الأمن والسلامة، ورواية "ورود مسمومة لصقر" التي تركز على الشاب الضائع بين أفكاره ومشاعره ومستوى معيشته، هذه الشخصية الثرية في الرواية وحياتها المعقدة التي يمثل فيها العناصر الثلاثة سبب شقائه والذى تفتح الرواية بموته على مكتبه محتضنًا باقة ورد فى 9 أغسطس 1984.
صالح بالتأكيد صنع عمل إبداعي ثالث مختلف وموازى، نجح أن يخرج من عباءة نفسه وسحر شخصية صقر المكتوبة وصنع فيلمًا عن تحية أخت صقر ومعها جسد كل هذا التقديس للرجل فى المجتمع الشرقى وتأثير ذلك خاصًة على الطبقات الاجتماعية الفقيرة ماديًا والتي تعيش في ظروف ضاغطة. تحية في الرواية أخت مقربة من شقيقها إلى حد كبير لكنها تحب صديقه يحيى وتعترف بذلك لأخيها على عكسها في الفيلم تقدس أخيها ولا ترى في العالم رجال سواه.. اهتمامها أخوي لكنه في الوقت ذاته مرضي، صقر في الرواية هو أساسها وحادث موته هو نقطة الذروة عند الأبطال لكنه ليس كذلك في الفيلم، فهو هنا مجرد شخص يستمد أهميته من تحية، وفيما كان الفيلم الوثائقى حقيقى إلى حد موجع وصادق لحد مدهش ومرعب يأتي "ورد مسموم" خيالى ويبالغ فى رسم شخصية تحية التي لن نرى مثلها في الواقع بنفس الدرجة لكن يشعرنا بالتأكيد بالثقل الذى يخلقه الفقر والجهل وصراع الطبقات الكافيين بتغيير أي تركيبة اجتماعية سوية ويصيبها بخلل غير مفهوم.
من هذا الخيط يبدأ المخرج في رسم شخصية تحية (كوكى) والتي لم يوضح فى البداية طبيعة علاقتها بصقر (إبراهيم النجارى) واللذان يعيشان مع أم صقر (صفاء الطوخى)، الأداء التمثيلى وغياب الحوار زادا من الحالة الضبابية المصممة بعناية حول طبيعة العلاقة التي تجمع بين صقر وتحية، هل هما أقرباء أم أن الفقر يمنع من ارتباطهما أو أن صقر لا يحبها خاصة وأنه لا يرد الاهتمام المبالغ بمثله. هذا الاهتمام الذى يبدو وضوح العين أنه مرضي عندما نعرف طبيعة العلاقة بينهما نقف أمام شبهة سلوك غير طبيعى ومنحرف، لكن هذا السلوك لا يأتى ابدًا ولا يمر في خيال الأبطال حتى، فحب تحية هو أخوى لكنه مبالغ فيه ويفوق ما تفعله الأم، خلل المشاعر بسبب الفقر والذى يجعل تحية تبدو جافة لا نلحظ عليها ملامح أنوثة، جوفاء من ناحية المشاعر فلا حبيب ولا شغف تستمد حياتها من حياة صقر، أنانية مطلقة لكن هذا السبيل الوحيد لها كى تشعر بذاتها وأمومتها كبديل عن علاقة لن تأتي.
هذه الحالة الضبابية حرص أن يبرزها ويضخمها صالح طوال الوقت، حالة الحب النابعة من عقدة إليكترا التي تعانى منها تحية بشكل أفلاطونى، ساعده فى ذلك تحكمه في السيناريو الحوار والإخراج ومع خروج الصورة بهذا الشكل الجيد والتي وقف ورائها مدير التصوير ماجد نادر ضمن صالح تقديم ما يعبر عنه بشكل متفوق وذلك على الرغم من كل العوائق التي تقف أمام ظهور الصورة النهائية بهذا الشكل الشاعري فطبيعة المكان من شوارع ضيقة وعدم وجود قنوات آمنة لتصريف المواد الكيميائية، فقط تجرى السوائل في الشوارع ومع كل هذا القبح والعشوائية استطاع فريق العمل أن يستخلص جمال من التفاصيل ويكسر كل هذه الحدة بتكوينات وتعبيرات بصرية بليغه وبالتأكيد أحمد فوزى صالح قدم أحد أفضل أفلام عام 2018، فاعتماده على الصورة والأداء التمثيلىي الصامت معظم زمن الفيلم نجح في تقليل الاحتكاك بين الشخصيات والمشاهدين ولم يضطره لوضع جمل مباشرة رنانة بأبعاد فلسفية بعيدة عن طبيعة شخصياته على لسانهم وفتح المجال لأن يبني الأداء الصامت علاقة شعورية بين الممثلين والجمهور تكونت وتصاعدت ببطء، الأداء الصامت كان الأبلغ للتعبير عن جفاف هذه الشابة الصغيرة وفنائها المؤكد كما الحال مع والدتها التى تبدو هي الأخرى كجثة متحركة لا دور لها في سير حياتهم، مجرد ظل يعيش معهم بعد رحيل الأب.
العناصر المساعدة الأخرى والتفاصيل الصغيرة التي ساهمت في رسم الصورة الكلية بقوة كانت أداة أخرى استغلها صالح أفضل استغلال، شخصية محمود حميدة التى عبرت برمزية عن قوة وسطوة الجهل والغيبيات فى المنطقة وما يشابهها من مناطق، الساحر الذى يجلس على عرش وسط كل هذا الخراب والظروف الحياتية المدمرة هو احد نتائجها وهو أيضًا احد أسباب بقائها، الملابس وشكل الشخصيات عند الأم كمثال بملابسها السوداء ووشم الحاجب الثقيل وعدم اهتمامها بنفسها بشكل عام فقط بقايا من جمال سابق، خمار تحية الذى يغطى جسدها وصرامة ملامحها وخطواتها ومضاد ذلك عندما تتعامل فقط مع صقر الذى يحاول بدوره الهروب من الحصار، مجرد ارتداءه ملابس مغايره تحمل أناقة وهندام غير معتادين فى حياته اليومية حتى تستشعر اخته الخطر وتسن أسلحتها لمواجهة الفتاة التي أعجب بها أخيها.
اختيار المكان والتركيز على بعض تفاصيله يعد العنصر الأقوى خاصة لأن المخرج يعتمد على الصورة بشكل شبه كلي في التعبير بدءًا من رمزية تغير طبيعة ولون الجلود أثناء معالجتها وانعكاس ذلك على طبيعة البشر مرورًا باللافتة المجاورة لحائط سطح منزل تحية والتي تلقى بظلال من السخرية، وهى اللافتة المتهالكة التي تعلن بخط ضخم عن مشروع تطوير المنطقة بمشاركه دولة أجنبية الأمر الذى يثير التساؤل إذا ما كان الحال بهذا الشكل بعد التطوير فكيف كان قبلها!، ما تعززه هذه اللافتة بظهورها في الكادر من اليأس وعدم جدوى أى محاولة أو مستقبل لتحية يدعم الرؤية البصرية في الفيلم ككل، وصولاً لعمل صقر الأخير في صناعة الغراء إحدى المراحل الناتجة عن صناعة الجلد وأضطراره لصعود برج خشبى عالٍ بما يمثله من رغبة في الهروب والابتعاد والتحليق بعيدًا، رؤية التصوير التي تتبنى زاوية تحية وهى تنظر للأعلى واضطرار صقر للنزول من برجه العالى ليمارس الطقس المفروض عليه من تحيه وهو تناول الغداء يعبر عن علاقتهم وتعقدها في الجزء الأخير من الفيلم.