رؤية نقدية ـ "The Irishman"..اعترافات قاتل لم يعرف الندم أبداً!
حياة الممثل "جو بيشى" مُلهمة، وتصلح فكرة فيلم من نوعية أفلام المخرج "مارتن سكورسيزي"، ليست حياة مُجرم، ولكنه شخص عصامي أصبح مشهوراً، ورافقته ظلال الجريمة في حياته الخاصة، كأنها خيط درامى وهمى يربط واقعه بأدواره على الشاشة. لقبه "بيشى" يعنى بالإيطالية "السمكة"، ونطقه قريب من نطق كلمة fish الإنجليزية، وقد بدأ التمثيل منذ طفولته، وعمل حلاقاً، ثم أدار مطعماً مع بعض أصدقائه، ومنحه "سكورسيزي" أهم أدوار حياته، في أفلام مثل "الثور الهائج" و"كازينو"، وفاز بأوسكار الدور المُساعد عن فيلم Goodfellas "رفقة طيبة"، وتزوج موديل حسناء تُدعى "أوليفيا هارو"، وهى أرملة دوبلير مشاهد مجازفة، مات على طريقة المافيا؛ إذ أطلق قاتل محترف النار على رأسه، أمام باب منزله، وبعد سنوات ربطت التحقيقات بين "أوليفيا هارو" والجريمة، وسرت إشاعات أن "جو بيشي" هو من دفع المال، ولكن التحقيقات برأته، وصدر حُكم بسجن زوجته، وأم ابنته الوحيدة. يعرفه كثيرون من خلال دور اللص قصير القامة في سلسلة أفلام الكوميديا Home Alone "وحدي في المنزل"، وفي نهاية التسعينيات اعتزل التمثيل تقريباً، حتى أقنعه "مارتن سكورسيزي" بتجسيد دور رجل العصابات "راسل بافالينو" في فيلمه الأخير The Irishman "الرجل الأيرلندي".
أوسكار "راسل بافالينو"!
في فيلم "الرجل الأيرلندى" يقدم "جو بيشى" حالة استثنائية من الأداء المعبر خلال مراحل الشخصية العمرية لزعيم المافيا "راسل بافالينو"، ومن المؤكد أن كل من "روبرت دى نيرو"، و"آل باتشينو" قدما أداءَ عظيماً للغاية، ولكن يظل أداء "بيشي" الأكثر عُمقاً وتعبيراً، هو شخص شديد الخطورة، لكنه يؤدى شخصيته بتعبيرات وجه هادىء، وعيون حادة، ورزانة تجعله الرجل الحكيم، والملاذ للجميع، والأكثر إستحقاقاً لأوسكار التمثيل القادم.
مافيا الجريمة، وعالم العصابات المنظمة واحد من موضوعات "سكورسيزي" المفضلة، وقبل عشر سنوات، تحدث "سكورسيزي" في ندوة بمكتبة الإسكندرية عن نشأته وطفولته في نيويورك في الأربعينيات، وكيف رأى نماذج من هؤلاء الأشخاص الذين يعملون سراً لصالح العصابات الإيطالية والأيرلندية، وهم خارج عملهم، مجرد أزواج وأباء، وشخصيات عادية للغاية، وربما كان ذلك سبباً في خروج شخصيات رجل العصابات في أفلام "سكورسيزي" بعيداً عن الصورة النمطية لشرير الشاشة.
سمعت أنك تطلى المنازل!
يسأله من يحتاجون خدماته الخطيرة: "سمعت أنك تطلى المنازل؟!"، والطلاء يرمز لدماء ضحايا القتل بالرصاص، ويوم عمل "فرانك شيران-روبرت دى نيرو" هو أداء مهام قذرة لصالح المافيا، ثم العودة لقضاء المساء بصحبة زوجته وبناته، وقبل ذلك كان جندي شارك في الحرب العالمية الثانية، وعاد ليعمل سائقاً على عربة نقل لحوم، ولكن رجل المافيا "راسل بافالينو" يكتشف أن موهبته أكبر من قيادة شاحنة، ويمنحه فرصة العمل في المهنة التى يجيدها أكثر، وهي القتل.
يبدأ الفيلم بمشهد طويل تتجول فيه الكاميرا في أروقة دار للمسنين في الزمن الحاضر للفيلم، وتصل حيث يجلس العجوز "فرانك" وحيداً غارقاً في ذكرياته، التى نسمعها بصوت الراوى أولاً، ثم يكمل "فرانك" ذكرياته بصوت عال، ولا نرى تحديداً مع من يتحدث. ما يعرضه الفيلم من ذكريات "فرانك" محاولة هادئة وبطيئة لإعادة فك وتركيب تعقيدات شخص أصبحت الجريمة جزء من حياته اليومية، وهو يحاول في شيخوخته استعادة مشاهدها، كأنه يعيد في خياله مشاهد فيلمه القديم المفضل.
الفرجة بعيون "فرانك شيران"
شخصية "فرانك شيران" هي الشخصية المحورية في الفيلم، وهي مأخوذة عن كتاب "سمعت أنك تطلى المنازل" للمحقق الفيدرالي السابق "تشارلز" برانديت"، والفيلم عبارة عن اعترافات "فرانك" بالجرائم التي قام بها، والتي كما يبدو لم يندم عليها أبداً، فهي أمور حدثت لأنها كانت حتمية في رأيه. أسلوب سرد هذه الاعترافات لا يسير على نمط واحد، فهو أحياناً يروى الأحداث العنيفة بصورة ساخرة، كأن تَثبت الصورة على شخص في حالة مرح، ومكتوب على الشاشة متى وأين مات، وعدد الرصاصات التى تلقاها في رأسه، أو يدمج بين مشاهد عائلية دافئة مثل تعميد الأطفال وزواج الابنة وتناول الطعام، وبين تنفيذ عمليات تصفية عنيفة، وهذا المزج يعكس عالم "فرانك" الخاص، فلا ننسى أن الفيلم روايته الشخصيه لحياته، وهي حياة تمتزج فيها التفاصيل العائلية اليومية وتفاصيل عمله السري الدموي، لقد ارتبط الموت لديه بالقتل العمد، وفي أحد المشاهد يخبره المحقق أن محاميه العجوز قد مات، فيسأل دون تفكير "من فعلها؟". "فرانك" قاتل ميت الضمير، وهو يُجيد إخفاء مشاعره، وقد تعود على طاعة الأوامر، منذ كان جندياً يقتل الأسرى بأوامر قادته، وهو لا يراجع ضميره بسبب تنفيذه عمله، ولا يهتم بعائلات الضحايا، لأنه لا يعرفهم كما يردد دائماً.
بريق "آل باتشينو" واختفاء "جيمى هوفا"
يجد "آل باتشينو" بعد سنوات من الأدوار الخافتة فرصة لاستعادة الأداء المتألق، وذلك بتجسيد الشخصية الجدلية الكاريزمية "جيمى هوفا"، رئيس نقابة السائقين بالولايات المتحدة، وكان البعض يضعه في المرتبة الثانية بعد الرئيس الأمريكي "كينيدي"، من حيث الشعبية والنفوذ، ويتبنى الفيلم روايات مختلفة وجريئة للتاريخ السياسي الأمريكي خلال حقبتى الستينيات والسبعينيات، فهو يؤكد على العلاقة القوية بين رئيس اتحاد العمال "هوفا" والمافيا، ويشير إلى أن المافيا دعمت حملة انتخاب "كينيدى"، لكنه انقلب عليهم؛ فقاموا باغتياله، ولاحقاً قاموا بالتخلص من "هوفا" الذى ظن أن نفوذه وشعبيته تحميانه من غضب الكبار.
حوارات مملة وعُنف صادم
مشاهد الحوارات الطويلة بين "روبرت دى نيرو" و"جو بيشي" و"آل باتشينو" لم تبرز فقط روعة أداءهما التمثيلي، بل قدرة "سكورسيزي" الإخراجية في التعامل مع تصميم الكادرات لتوحي بأجواء المكان، وتقطيع الصورة برشاقة لتوصيل مشاعر الشخصيات، وزوايا التصوير المعبرة عن توترات المواقف المختلفة، ونقلات المونتاج التي تتحكم بإيقاع الأحداث على الشاشة، واستخدام الكمبيوتر لتخفيف تجاعيد الممثلين، ليظهروا أصغر سناً، وهو بالفعل ينقل حوارات مملة تدور بين رجال عصابات، لكنه يصورها بلغة سينمائية بديعة، وهو يعمد إلى التركيز على المواقف التى تحاول كشف الجوانب النفسية المظلمة لهذه الشخصيات، فهؤلاء الرجال يجلسون بهدوء على موائد منعزلة، ويديرون شؤون المدينة، ويحكمون بالموت على أعدائهم، وهم أيضاً يتحدثون عن العائلة والأطفال، هم يفعلون ذلك بكل برود وقسوة وحميمية، وبلا ذرة شعور بالندم، فهذا روتين حياتهم اليومى.
المدة الطويلة للفيلم (209 دقيقة) قد تبعث على الملل، خاصة لمن يبحث عن الرصاص الكثيف المتطاير طوال الوقت، لكن سيناريو "ستيفن زاليان" الاستثنائى قدم العنف الصادم وليس الأكشن، وقدم الحكاية بمنطق "فرانك"، وترك للمشاهد فرصة الحكم على شخصية مُعقدة من الداخل، وحينما ينتهى الفيلم سيكتشف المشاهد أنه أمام بورتريه سينمائي لشخص تالف أخلاقياً، رغم أنه يبدو لطيفاً ورجل عائلة تقليدي من الخارج.